للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكان (زهير) شديد العناية بتنقيح شعره، حتى ضرب به المثل، وسميت قصائده بالحوليات، نسبة إلى الحول أي السنة، وذلك لأنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها بنفسه في أربعة أشهر، ويعرضها على أصحابه الشعراء في أربعة أشهر. فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول كامل.

وقيل كان ينظم القصيدة في ليلة واحدة، ويهذبها في سنة. ولعل الأول أرجح.

[معلقته وسبب نظمها]

معلقة (زهير) أشعر شعره. وقد اجتمعت ما أشبه كلام الأنبياء، وحكمة الحكماء. ففيها الحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والأخلاق الفاضلة، والمعاني العالية، والأغراض النبيلة. أضف إلى ذلك ما حوته من الأساليب البليغة، والكلام الجزل.

وقد أنشأها يمدح بها (الحارث بن عوف) و (هرم بن سنان) المريين، ويذكر سعيهما بالصلح بين (عبس وذبيان) وتحملهما ديته من مالهما.

وذلك أن (ورد بن حابس العبسي) قتل (هرم بن ضمضم المري) في حرب (عبس) و (ذبيان) قبل الصلح، وهي المعروفة بحرب (داحس والغبراء) . فلما اصطلح الناس ووضعت الحرب أوزارها تخلف (ضمضم) أخو (هرم) عن الدخول فيما دخل فيه الناس. وحلف أن لا يغسل رأسه حتى يقتل (ورد بن حابس) أو رجلا من (بني عبس) ثم من (بني غالب) . ولم يطلع على ذلك أحد.

وكان قد حمل الحمائل وتكفل بأداء دية من قتل قبل الصلح (الحارث بن عوف بن أبي حارثة) و (هرم بن سنان) .

ثم أقبل رجل من (بني عبس) ثم من (بني غالب) حتى نزل بحصن بن ضمصم. فقال له: "من أنت أيها الرجل؟ "، قال: "عبسي ". فقال: "من أي عبس؟ "، فلم يزل ينتسب حتى انتسب على (غالب) . فقتله (حصين) . وبلغ ذلك (الحارث بن عوف) و (هرم بن سنان) ، فاشتد عليهما ذلك. وبلغ الأمر (بني عبس) ، فركبوا نحو (الحارث) . فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل (الحارث) . بعث إليهم بمئة من الإبل معها ابنه. وقال للرسول: قل لهم "الإبل أحب إليكم، أم أنفسكم؟ " فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك. فقال (الربيع بن زياد) : "يا قوم، إن أخاكم قد أرسل إليكم يقول: الإبل أحب إليكم، أم ابنه تقتلونه مكان قتيلكم؟ ". فقالوا: "بل نأخذ الإبل ونصالح قومنا".

وفي ذلك يقول (زهير) في معلقته:

تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

فأصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنم

[نخبة من معلقته]

أمن أم أوفى دمنه لم تكلم، ... بحومانة الدراج فالمتثلم؟

ودار لها بالرقمتين، كأنها ... مراجيع وشم في نواشر معصم

فلما عرفت الدار قلت لربعها: ... ألا أنعم صباحا أيها الربع، واسلم

فأقسمت بالبيت (الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم)

يمينا: لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال: من سحيل ومبرم

تداركتما عبسا وذبيانا، بعد ما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا ... بمال ومعروف من القول، نسلم

فأصبحتما منها على خير موطن، ... بعيدين فيها من عقوق ومأثم

عظيمين في عليا معد ... هديتما

ومن يستبح كنزا من المجد يعظم

فأصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنم

ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفي ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر، فيوضع في كتاب، فيدخر ... ليوم الحساب، أو يعجل، فينقم

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم، ... وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة، ... وتضر إذا ضريتموها، فتضرم

لعمري، لنعم الحي جر عليهم ...

بما لا يواتيهم

حصين بن ضمضم

وكان طوى كشحا على مستكنة، ... فلا هو أبداها، ولم يتقدم

وقال سأقضي حاجتي، ثم أتقي ... عدوي بألف

من ورائي

ملجم

سئمت تكاليف الحياة: ومن يعش ... ثمانين حولا

لا أبالك

يسأم

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله، ... ولكنني عن علم ما في غد عمي

رأيت المنايا خبط عشواء: من تصب ... تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم

<<  <   >  >>