للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلما كان زمن (معاوية) أراد معاوية أن ينقصه من عطائه. فقال له: هذان الفودان (يعني الألفين) فما هذه العلاوة؟ (يعني الخمسمائة) . فقال له (لبيد) : "أموت ويبقى لك الفوادان والعلاوة. وإنما أنا هامة اليوم أو الغد ولعلي لا أقبضها". فرق له (معاوية) وترك له عطاءه على حاله. فمات ولم يقبضها.

وكان (لبيد) من الأجواد المشهورين. وكان شريفا في الجاهلية والإسلام. وكان قدت نذر أن لا تهب الصبا إلا نحر وأطعم. وكانت له جفنتان يغدو بهما ويروح كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم. فهبت الصبا يوما وهو بالكوفة مقتر مملق. فعلم بذلك (الوليد بن عقبة) - وكان أميرا عليها - فصعد المنبر، فخطب الناس، فقال: قد عرفتم أن أخاكم (لبيد بن ربيعة) قد نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم. وهذا اليوم من أيامه. وقد هبت الصبا، فأعينوه. وأنا أول من فعل". ثم نزل عن المنبر. فأرسل إليه بمئة ناقة. وبعث إليه الناس حتى اجتمع لديه شيء كثير. فقضى نذره وأطعم الناس.

وبعث إليه (الوليد) مع النوق بأبيات شعر قالها وهي:

أرى الجزار يشحذ شفرتيه ... إذا هبت رياح أبي عقيل

أغر الوجه، أصيد عامري، ... طويل الباع، كالسيف الصقيل

وفى ابن الجعفري بحلقتيه، ... على العلات والمال القليل

بنحر الكوم إذ سحبت عليه ... ذيول صبا تجاوب بالأصيل

فلما أتاه الشعر (وكان قد ترك قوله) قال لابنته: "أجيبيه. فلقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر". فقالت:

إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا

أشم الأنف، أروع، عبشميا ... أعان على مروءته لبيدا

بأمثال الهضاب، كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا

أبا وهب ... جزاك الله خيرا

،

نحرناها وأطعمنا الثريدا

فعد، إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا

فقال لها (لبيد) : "أحسنت، لولا أنك استطعمته". فقالت: "والله ما استزدته، إلا أنه ملك، والملوك لا يستحيا من مسألتهم. ولو كان سوقة لم أفعل "فقال: وأنت يا بنية في هذه أشعر".

[وفاة لبيد]

بعد أن وفد (لبيد) هو وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم هو وإياهم، رجع قومه إلى بلادهم. وقدم هو (الكوفة) فأقام بها إلى أن مات، وله من العمر مئة وخمس وأربعون سنة (١٤٥) على الصحيح. ويقال أن وفاته كانت في أول مدة (معاوية بن أبي سفيان) . وهو المشهور. وقيل: بل في أيام (الوليد بن عقبة) في خلافة (عثمان بن عفان) - رضي الله عنه - فبعث (الوليد) إلى منزله عشرين جزورا فنحرت عنه وأكلها الناس.

و (لبيد) مذكور في طبقات المعمرين.

وروى (أبو حاتم السجستاني) في (كتاب المعمرين) أن (الشعبي) قال: "أرسل إلي (عبد الملك بن مروان) في حياته. فدخلت عليه فقلت: "كيف أصبحت يا أمير المؤمنين فقال أصبحت كما قال (عمرو بن قميئة) الشاعر:

كأني وقد جاوزت سبعين حجة، ... (خلعت بها عني عذار لجامي)

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى، ... فكيف بمن يرمي وليس برام

فلو أنها نبل، إذن لاتقيتها، ... ولكنني أرمى بغير سهام

إذا ما رآني الناس قالوا: ألم تكن ... جليدا، شديد البطش، غير كهام؟

فقلت: "لا يا أمير المؤمنين، ولكنك كما قال (لبيد بن ربيعة) ، وذلك لما بلغ سبعا وسبعين سنة. أنشأ يقول:

باتت تشكي إلى النفس مجهشة: ... لقد حملتك سبعا بعد سبعينا

فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا، ... وفي الثلاث وفاء للثمانيا

ثم عاش حتى بلغ تسعين سنة، فقال:

كأني ... وقد جاوزت تسعين حجة

خلعت بها عن منكبي ردائيا

ثم عاش حتى بلغ مئة حجة وعشرا، فأنشأ يقول:

أليس في مئة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر؟

ثم عاش حتى بلغ مئة وعشرين سنة، فأنشأ يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟

غلب الرجال، وكان غير مغلب ... دهر جديد دائم ممدود

يوم أرى يأتي علي وليلة، ... وكلاهما بعد المضاء يعود

فقال عبد الملك: "والله ما بي من بأس. اقعد وحدثني ما بينك وبين الليل. فقعدت فحدثته حتى أمسيت. ثم فارقته. فمات في ليلته.

<<  <   >  >>