للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقيل: إن السبب في رجوعه إلى النعمان أنه بلغه مرضه وأنه لا يرجى فأقلقه ذلك. ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته. فصار إليه. وألفاه محموما على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة. فقال لحاجبه (عصام بن شهبرة) :

ألم أقسم عليك، لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام

فإني لا ألومك في دخولي ... ولكن، ما وراءك يا عصام

فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس، والشهر الحرام

ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر، ليس له سنام

[موت النابغة]

قالوا: نبغ النابغة بالشعر بعد ما احتنك. وهلك قبل أن يهتر. ولم أر من ذكر ما بلغ من العمر. غير أنهم قالوا: قد أسن وكبر توفي السنة التي قتل فيها (النعمان بن المنذر) وكان وفاته سنة (٦٠٤) لميلاد المسيح عليه السلام. وسنة (١٨) قبل الهجرة.

[الكلام على شعره]

هو أحد فحول شعراء الجاهلية، ومن أعيانهم المذكورين. ويقال: أنه كان أحسن الناس ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتا. كان شعره كلاما ليس فيه تكلف. وقد عده (الجمحي) في الطبقة الأولى بعد امرئ القيس. وكان لا ينسج كلامه إلا على منوال الفصاحة، ولا يخيطه إلا بخياط البلاغة. فشعره متين السبك، جيد الحبك، صافي الديباجة، واضح المعاني. وقد شهد له عمر بن الخطاب وأبو الأسود الدؤلي وحماد الرواية والأخطل وجميع صاغة الشعر. ويكفيه أنه كانت تضرب له القبة في سوق عكاظ لتعرض عليه الشعراء أشعارها.

روى (الشعبي) أن عمر بن الخطاب قال: من أشعر الناس؟. قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال من الذي يقول:

ألا سليمان، إذ قال الإله له: ... قم في البرية، فاحددها عن الفند

وخيس الجن، إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد

قالوا: هو النابغة. فقال: فمن الذي يقول:

حلفت، فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب

ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب؟

قالوا: هو النابغة. قال: فمن الذي يقول:

أتيتك عاريا، خلقا ثيابي، ... على وجل، تظن بي الظنون

قالوا: هو النابغة. قال: فهو أشعر العرب وقام رجل إلى (ابن عباس) فقال: أي الناس أشعر؟ فقال ابن عباس: أخبره يا أبا الأسود. قال: الذي يقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي، ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وروي عن الأصمعي أنه قال: "سألت بشارا الأعمى: من أشعر الناس؟. فقال: اختلف الناس في ذلك. فأجمع أهل البصرة على امرئ القيس وطرفة بن العبد، وأجمع أهل الكوفة على بشر بن أبي حازم والأعشى الهمداني، وأجمع أهل الحجاز على النابغة الذبياني، وأجمع أهل الحجاز على جرير والفرزدق والأخطل".

وروي عنه أيضا أنه قال: "أول ما تكلم به النابغة من الشعر أنه حضر مع عمه عند رجل. وكان عمه يشاهد به الناس، ويخاف أن يكون عييا. فوضع الرجل كأسا في يده، وقال:

تطيب كؤوسنا، لولا قذاها، ... ويحتمل الجليس على أذاها

فقال النابغة وقد حمي لذلك:

قذاها أن شاربها بخيل ... يحاسب نفسه، بكم اشتراها

قالوا: وكان النابغة يقوي في شعره. وكان مهيبا لا يستطيع أحد أن يقول له: أقويت. فقدم المدينة فأنشد الناس قصيدة له كان قد أقوى فيها: فما تجاسر أحد أن ينبهه إلى ذلك. فأتوه بقينة فغنت بهذين البيتين أمامه:

سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه ... فتناولته، وأتقتنا باليد

بمخضب رخص، كأن بنانه ... عنم، يكاد من اللطافة يعقد

فمدت القينة صوتها باليد فصارت الكسرة ياء، ومدت يعقد فصارت الضمة واوا. فتنبه. ولم يعد إلى الإقواء. وغير الشطر الأخير، وجعله: "غنم على أغصانه لم يعقد". وقد قال: "دخلت (يثرب) وفي شعري بعض العاهة، فخرجت منها وأنا أشعر الناس".

من غرار شعره قصيدته التي يصف بها المتجردة.

وقد تقدم خبر ذلك. ومطلعها:

أمن آل مية رائح أو مغتد؟ ... عجلان، ذا راد، وغير مزود

زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود

لا مرحبا بغد، ولا أهلا به، ... إن كان تفريق الأحبة في غد

أزف الترحل، غير ركابنا ... لما تزل برحالنا، وكأن قد

<<  <   >  >>