للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان الفرزدق جالساً عند الحسن البصري، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا، فنصيب المرأة من العدو، وهي ذات زوج، فتحل لنا من غير أن يطلقها زوجها، فقال الفرزدق، وقد قلت أنا مثل هذا في شعري فقال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:

وذات خليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً، لمن يبني بها، لم تطلق

قال الحسن: صدقت، ثم أقبل رجل آخر، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في الرجل يشك في الشخص يبدو له فيقول: هذا والله فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلت أنا مثل هذا، قال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:

ولست مأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم

قال الحسن: صدقت.

واستعدت امرأة على زوجها عباد من منصور، وزعمت أنه لا ينفق عليها فقال لرؤبة بن العجاج: احكم بينهما، فقال:

فطلق إذن إن كنت لست بمنفق ... فما الناس إلا منفق أو مطلق

وقال علي بن الهجم: قلت لقينة:

هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدنى إليك؛ فإن الحب أقصاني

قالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت:

اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه ... فلم يزل مدنياً، من ليس بالداني

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان بالمدينة رجل جعفري، من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان يتعشق قينة بالمدينة، فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها؛ فقد والله أيتمت أولادي، وأرملت نسائي، وأخرجت ضيعتي، فقاموا معه حتى وقفوا ببابها، فدقه، فخرجت إليه، فإذا هي أملح الناس دلالاً وشكلاً، فقال لها: يا جارية، أتغني:

وكنت أحبكم، فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام

فاستحيت وخجلت وبكت، وقالت: يا جارية، هات عودي، والله ما أحسن هذا، ولكن غيره:

تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء

قال: فاستحيا والله صاحبنا. ثم تصيب عرقاً، ثم قال لها: يا سيدتي هل تحسنين أن تغني:

وأخضع للعتبى إذا كنت ظالماً ... وإن ظلموا كنت الذي أتنصل

قالت: والله ما أحسن هذا، ولكن غيره، ثم غنت:

فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله ... وننزلكم منا بأفضل منزل

قال: فدفع الباب ودخل، وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة.

وكتب البعث على رجل من الكوفة، فخرج، وأفاد جارية وفرساً، وكان متزوجاً بابنة عم له، فكتب إليها:

ألا أبلغوا أم البنين بأننا ... غنينا، وأغنتنا الغطارفة المج

بعيد مناط المنكبين، إذا جرى ... وبيضاء كتمثال، زينها العقد

فهذا لأيام العدو، وهذه ... لحاجة نفسي، حين ينصرف الجند

فلما وردها كتابه، قرأت، وقالت: يا غلام، هات الدواة، ثم كتبت:

ألا أقره منا السلام، وقل له: ... غنينا، وأغنتنا غطارفة المج

إذا شئت غناني غلام مرجل ... ونازعته من ماء معتصر الورد

وإن شاء منهم ناشئ مد كفه ... إلى كبد ملساء أو كفل نهد

فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... حضوراً، فتقضوها على النأي والبعد

فعجل علينا بالسراح؛ فإنه ... منانا، ولا ندعو لك الله بالرد

فلا قفل الجند الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعداً على بعد

فلما ورد كتابها لم يزد على أن ركب، وأردف الجارية ولحق بها، فكان أول شيء بدأها بعد السلام أن قال لها: بالله هل كنت فاعلة؟ قالت: الله في قلبي أجل وأعظم، وأنت في عيني أحقر وأذل من أن أعصي الله فيك، فكيف ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجارية، وانصرف إلى بعثه.

ونظر ابن أبي ذيب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالكعبة، فقال لها: من أنت؟ فقالت:

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن التقي المغفلا

مثلك أبا عبد الله، قال: صان الله ذلك الوجه عن النار، قيل: أفتنتك أبا عبد؟ قال: لا، ولكن الحسن مرحوم.

وقال الشافعي رضي الله عنه؛ تزوج رجل امرأة حديثة على امرأة قديمة، فكانت جارية الحديثة تمر بباب القديمة فتقول:

وما يستوي الرجلان: رجل صحية ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت

ثم تعود فتقول:

وما يستوي الثوبان: ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد

فمرت جارية القديمة بباب الحديثة، وأنشدت:

<<  <   >  >>