للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وما النية غلا خلاصة الفكر والضمير ونتاج ما بينهما، فلا تنطو على ما يسوؤك أن تنمك به ألسنة الغيب وإنما الحوادث من هذه الألسنة ولا تعقد هوى ضميرك على ما تحسبه أملا من حيث لا يكون إلا حسدا للناس ولا يعقب غلا نكدا لنفسك، وما تظنه عزما منك وهو طمع في الله ومخادعة القدر.

وحسبك من المتاجرة مع السماء بضاعة صالحة من الإيمان الذي لا غش فيه، ومن المتاجرة مع الأرض بضاعة طيبة من النية التي لا دنس فيها، فإن ربحك من هذه البضاعة التي لا تكسد في أسواق السماء والأرض، أن يلقي اله عليك محبة منه وتأييدا وسكينة، وإن رأى الناس أنك خسرت شيء من الغنى أو الجاه أو متاع الدنيا، فإنما تعلم أنت يقينا أنك لم تخسر غلا الهم والشقاء والتعب بالدنيا وأهلها.

ويومئذ يكون لك من حسن الإيمان، وحسن النية، وحسن الأخلاق، ما نعرف منه كيف يكون حسن الحظ.

[الحرب]

رقعة من الأرض كأن فيها شيئاً من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله فلا يكاد ينزل بها الجيشان حتى تعد أرواح أكثرهم إلى سمائه، ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزال تصرعه وكأنها من شوقها تضمه، وتلقيه على صدرها ميتاً أو جريحاً كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه، وهي مزرعة الموت، نباتها الرؤوس فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس فمنها داني القطاف ومنها بعيد وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد!.

بل هي ساحة الحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية ويحشر إلى مسرحها الناس ليمثل لهم الموت كل يوم رواية وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر زاخرة، وتناثر فيها الرجال، فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخرة، وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنه لأهل الدنيا قم الآخرة! أما الجنود فإذا رأيته يلتحمون قلت: زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحموا خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها وقد أيقنوا أنها إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على الفتح بني على الكسر، وما منهم إلا من يحمل رأساً كأنه لا يملكها، على عمق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه، فهو لا يبالي أظلته الشمس أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس.

وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم، وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه الطرح أم أخذه الضرب وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار، فليس إلا الصبر ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على النار فثم المكان، ولو في جوف البركان، وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحي، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكاءه أن يكون من صحة الذهن بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من خفة الروح بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.

وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضياً ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكما على الحياة ماضية، فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويتكلم بألسنة الروح من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه من كل ضرب ويجري الحياة مجرى الاستعارة في بيان الحرب.

وقد تواقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينظر منها أن تقع على الأرض فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنة، أم نوازع من السحاب بروقها الصوارم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلة كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكأن العنان في يده سوط لكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان حتى لم يعد من الإنسان فإذا صاح بقرنه عرفت الوحوش ذلك الصوت، وإذا هاجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر في مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت.

<<  <   >  >>