للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن منقولات أخباره في الحرص على نفع البلاد أنه كان لا يلبس إلا طيلسان بلد جربة واتفق له أن لبس الطيلسان الكشمير فلم تمض عليه مدة حتى رأى جميع رجال دولته مثله ففطن لكساد صناعة البلاد ورواج السلع الخارجية، وعند حضور موكب العيد أقبل عليهم لابساً طيلساناً من صناعة جربة، وفي ذلك اليوم ترك جميعهم الطيلسان الكشمير، ولبس مثل لبس الأمير.

مزورة عليه مع أنها كانت بعقد عدلين لا ريبة في عدالتهما وهما ميتان والرسم قديم، لكنه مع ذلك رأى من تلهف المدعى عليه بها ما تشكك به في ثبوت ذلك عليه، فأخذ الكاغذ الذي كتبت فيه الحجة وأحضر بعض الإفرنج العارفين بتواريخ إنشاء الكاغذ، وكشف الغيب على أن تاريخ كتابة الرسم كان قبل إنشاء أصل الكاغذ بسنين كثيرة وبالاختبار تبين أن الرسم مفتعل وأن الشهادة مزورة على شهيديها.

وكان متخذاً القبة الحمراء أمام باردو لقبول جواسيسه عشية كل يوم يعلم منهم جميع ما وقع ذلك اليوم حتى انفرد بمعرفة حقيقة ما عليه البلاد وأهلها. وبالجملة فإن هذا الأمير تصرف في المملكة تصرف الأب الشفوق في أبنائه وأحيا لها ذكراً، وفك لها أسراً.

وبنى المسجد الذي قرب القصبة وأقام به الأحزاب الجارية إلى هذا اليوم بما أوقفه عليها.

وكان شهماً حازماً غيوراً، عالي الهمة، عزيز النفس أبيَّ الضيم حامياً للذمار، غير متحمل للعار، خبيراً بسياسة البلاد، نصوحاً لها، حسن التدبير، محباً للعلماء والصالحين، يباشر المهمات بنفسه مقتصداً في شخصياته، حافظاً لأموال المسلمين عن غير مصالحهم، لا تأخذه في الحق لومة لائم، صادق الفراسة التي كاد أن يطلع بها على الغيب، بحاثاً عن الأحوال، كاظماً للغيظ، أصيب بفقد ولده محمد المأمون باي فدخل عليه الشيخ صالح الكواش يعزيه وقال له في تعزيته: إن الله ما بولدك ابتدا، ولا عليك اعتدى، فإن رضيك ذلك فيا حبذا، وإلاَّ فعليك بذا ثم بذا، وأشار إلى الحائطين بميمنته وشماله، فاسترجع الأمير ولازم صبره. ولم يزل على اعتنائه بشأن ملكه إلى أن فاجأته المنية بعد مغرب ليلة الجمعة مفتتح شوال سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله ورثاه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل]

حكم المنية نافذُ الأحكام ... والدار ما جعلت بدار مُقام

كم فتتت كبداً وكم أبكت دماً ... ولرب عرش ثل بعد نظام

ولربما هان المصاب وفيك يا ... حمودة جلل على الأيام

يفنى الزمان ورزءُ فقدِك حادث ... يُتلى على الأفواه والأقلام

إن تسخُ جامدة العيون بدرها ... فلطالما رويتْ بكأس منام

أو تلبس الدنيا عليك حدادها ... فغروب شمسك مؤذنٌ بظلام

لكن مآثرك التي خلدتها ... أبقت سناك وأنت تحت رِجام

السور ما سوَّاه إلاَّ عزمُه ... ومشيدُ الأبراج تحت ضرام

أما الثغور فإنها غصصُ العدى ... وشفا الصدورِ بآية الإسلام

ولكم سقيت الرعب من شق العصا ... ومزجت كأس سروره بحِمام

مم بعد ما بالغتَ في إرشاده ... وغضضتَ جفنَ الحلمِ غضَّ كرام

حتى أطاعك فيهمُ النصر الذي ... خضعوا به قسراً خضوع لِئام

وبلغْتَ أنّك إن رأوا لك عسكراً ... هزموا بلا طعن وسل حُسَام

وغدت بذلك تونسٌ تفترُّ في ... حلل الهنا عن ثغرها البسَّام

محسودة كعقاب جوٍّ منعةً ... بشموخها وكميِّها الضِّرغام

والآن فهي لفقده محزونةٌ ... تبكي عليه بكل طرفٍ دام

فكأنما عين الحواسد فوقتْ ... لجمالها عن قوسه بسهام

لما دعا داعي الرضا فأجابه ... مستسلماً لله في الأحكام

فافسح له اللهمَّ عندك منزلاً ... واسمح له بزيادة الإنعام

ولقولتي حقق بفضلك فيه إذ ... أرختُ: قيلَ: ادخُلْ لنا بسلامِ

[٦- المولى عثمان باشا باي]

[١١٧٦ ١٢٣٠]

<<  <   >  >>