للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأنا أقول: المغايرة بمدح الرقيب أمر مشهور من قديم العصر في النظم والنثر، فمنه قول بعض الظرفاء: متى أؤدي شكر الرقيب وهو يحفظ حبيبي - وهو من الدنيا نصيبي - وكما يمنعه مني، يمنعه من غيري.

وكان عبد الصمد بن معذل يقول: مرحبا بالرقيب، فإنه ثاني الحبيب. وهو القائل لابن الرومي:

موقف للرقيب لا أنساه ... لست أختاره ولا أأباه

مرحبا بالرقيب من غير وعد ... جاء يجلو علي من أهواه

وقال آخر:

أحب العذول لتكراره ... حديث الحبيب على مسمعي

وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... يكون إذا كان حبي معي

فإن كان ابن حجة لم يطرق سمعه شيء من ذلك فقد دل على قلة اطلاعه وقصر باعه، وإن اطلع عليه ثم قال: (الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم أنا في مدحه فانظر إلى حسن المغايرة وغرابة المعنى) فهذا منه وقاحة زائدة وتزيد ليس له فائدة.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

وقيت يا عاذلي مني التغاير ما ... ذكرتهم لي إلا فرجت غممي

هذا معنى بيت الشيخ صفي الدين الحلي بعينه أخذه من ذلك العقد وأودعه هذا الودع.

وبيت بديعيتي هو قولي:

غايرت قولي في حبيهم فأنا ... أهوى الوشاة لتقريبي لسمعهم

المغايرة فيه، محبته للوشاة به، لتقريبهم له من سمع أحبابه، والناس قد أجمعوا على مقت الوشاة في بغضهم لهم، وهذه المغايرة لم أقف عليها في نظم ولا نثر ممن تقدمني مع شدة الفحص عنها والطلب لها.

ووقع في شعر مسلم بن الوليد المغايرة بمدح الواشي على غير هذا الوجه، وهو قوله:

يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق

وهذا المعنى ليس من ذلك في شيء كما هو ظاهر.

وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:

جرى الفراق فراق الالتقا ووقى ... ملالة الوصل فأحمده ولا تذم

المغايرة فيه ظاهرة وهو مدح الفراق، لكونه حسن الالتقاء بعده، ولكونه وقى من ملالة الوصل، والمعروف ذم الفراق والتبرم منه.

[التوشيح]

هم وشحوني بمنثور الدموع وقد ... توشحوا من لآليهم بمنتظم

التوشيح هو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية ويدل على لفظها، ولذلك سمي توشيحاً، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزل المعنى منزلة الوشاح، ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح، والفرق بينه وبين رد العجز على الصدر، أن هذا دلالته معنوية، وذاك لفظية.

ومن أعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) فإن اصطفى يدل على أن الفاصلة (العالمين) لا باللفظ، لأن لفظ العالمين غير لفظ اصطفى ولكن بالمعنى، لأنه يعلم من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختارا على جنسه، وجنس هؤلاء المصطفون العالمون. وقوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) .

قال ابن أبي الإصبع: فإن من كان حافظا لهذه السورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة (مظلمون) لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمة.

ومن أمثلته الشعرية قول الراعي:

وإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزينا

قال قدامة في كتابه نقد الشعر: إن الإنسان إذا سمع هذا البيت وقد عرف قافية القصيدة، علم أن وزن الحصى سيأتي بعده رزين لأمرين: أحدهما أن قافية القصيدة نونية، والثاني أن نظام البيت يقتضيه، لأن الذي يفاخر برجاحة الحصى وهو العقل، يلزمه أن يقول في حصاه أنه رزين. انتهى.

ونحوه قول الفرزدق من قصيدته التي أجاب بها جريرا:

وأغلق من وراء بني كليب ... عطية من مخازي اللؤم بابا

فإن السامع إذا تحقق أن القافية مجردة منطلقة رويها الباء وحرف إطلاقها الألف، ورأى في صدر البيت ذكر الإغلاق، لم يعتره شك في أن القافية (بابا) .

وذكر ابن حجة وغيره في هذا النوع أمثلة هي من نوع التسهيم، ستقف عليها هناك، وتعلم أنها منه لا من باب التوشيح.

ومما وقع لي أنا في هذا النوع، أني أنشدت مرة شيخنا العلامة جعفر ابن كمال الدين البحراني سقى الله غيث الرحمة ثراه أبياتا من شعري أولها:

سقى الله أيامنا بالحجاز ... ولا جازها الغيدق الهاطل

<<  <   >  >>