للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتبين بهذه الأمثلة المذكور سقوط ابن حجة: إن الإغراق لا يعد من المحاسن إلا إذا أقترن بما يقربه إلى القبول, كقد: للاحتمال, ولولا: للامتناع, وكاد: للمقاربة, ونحو ذلك. انتهى. فإن الأمثلة المذكورة ما خلي عن ذلك, وهو في غاية الحسن, فلا عبرة بقوله.

وبيت البديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:

في معرك لا تثير الخيل عثيره ... مما تروي المواضي تربه بدم

هذا البيت عامر بالمحاسن, والإغراق فيه ظاهر لإمكان معناه عقلا, واستحالة عادة.

وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

لو قابل الشهب ليلا في مطالعها ... خرت حياء وأبدت بر محترم

هذا البيت لكونه في مدح سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين كأن معناه ممكنا عقلا, ولو كان معناه ممكنا عقلا, ولو كان في مدح غيره لكان من باب الغلو.

وبيت البديعية عز الدين الموصلي قوله:

لو شاء إغراق وجه الأرض أجمعه ... ندى يديه لأحياها ولم يضم

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

لو شاء إغراق من في الحق كذبه ... لفاض إصبعه بالزاخر العمم

وبيت بديعيتي هو قولي:

لو أنه رام إغراق العداة له ... لأصبح البر بحرا غير مقتحم

الإغراق في هذا البيت ظاهر, وهو أبلغ منه في بيت ابن حجة, لأنه قال (لو شاء إغراق من ناواه مد له في البر بحرا) وأنا قلت (لا نقلب البر بحرا) وبينهما بون بائن.

وبيت البديعية المقري قوله:

لولا غليل شفته الأرض من دمهم ... شربا لما جت ببحر منه ملتطم

قال في شرحه معناه: لولا أن الأرض كان بها على قتلاه من الكفار غيظ وخنق فشفت غليلها منهم بشرب دمائهم كما يفعله المبالغون في العداوة لكانت الدماء من كثرتها تموج من فوقها بحرا. انتهى.

[الغلو]

ولا غلو إذا ما قلت عزمته ... تكاد تثني عهود الأعصر القدم

الغلو هو أن تدعي لشيء وصفا بالغا حد الاستحالة عقلا وعادة. فتبين بهذا أن المبالغة دون الإغراق, والإغراق دون الغلو, لما مر من أن المدعي في المبالغة ممكن عقلا وعادة, وفي الإغراق ممكن عقلا ولا عادة, وفي الغلو مستحيل عقلا وعادة. والغلو أن أفضى إلى الكفر كان قبيحا مردودا, وإلا كان مقبولا, والمقبول يتفاوت في الحسن, وأحسنه ما دخل عليه ما يقر به إلى الصحة, ككاد, ولو, ولولا وحرف التشبيه كقوله تعالى (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) فإن إضاءة الزيت مع عدم مسيس النار مستحيلة عقلا وعادة, وبدخول (يكاد) خرج عن الامتناع, لأنها دلت على مقاربة الإضاءة لا وقوعها الذي هو المستحيل.

ومثله قول الفرزدق في علي بن الحسين عليه السلام:

يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وقول الشريف الرضي رضي الله عنه والغلو فيه مجازي:

أشكو ليالي غير معتبة ... أما من طول أو من القصر

تطول في هجركم وتقصر في الوصل فما تلتقي على قدر

يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيه العشاء بالسحر

قيل أول ما بالغ في الشعر وكذب فيه المهلهل بقول:

ولولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور

وهذا من الغلو, فإنه ممتنع عقلا وعادة, لأنه كان بين حجر وبين موضع الوقع عشرة أيام, ولهذا قيل فيه: أنه كذب بيت قالته العرب.

ومنه قول أبي العلاء المعري في شدة الحنين عند لمع البرق:

شجا ركبا وأفراسا وإبلا ... وزاد فكاد أن يشجو الرحالا

وقوله أيضاً من هذه القصيدة:

تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبهم النبالا

تكاد سيوفه من غير سل ... تجد إلى رقابهم انسلالا

وما أبدع قوله منها وهو مما نحن فيه:

يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه انسلالا

وفي معناه قول ابن المعتز:

يكاد يجري من القميص من ال ... نعمة لولا القميص يمسكه

وقول أبي الشيص:

لولا التمنطق والسوار معا ... والحجل والدملوج في العضد

لتزايلت من كل ناحية ... لكن جعلن لها على عمد

ومنه أخذ ابن النبيه قوله:

لها معصم لولا السوار يصده ... إذا حسرت أكمامها لجرى نهرا

ومثله قول بعضهم:

لها من الليل البهيم طرة ... على جبين واضح نهاره

<<  <   >  >>