للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كأن محمر الشقيق ... إذا تصوب أو تصعد

أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد

فان الأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية مما لم يدركه الحس, لأن الحس إنما يدرك ما هو موجود في المادة, حاضر عند المدرك, على هيئات محسوسة مخصوصة به لكن مادته التي تركب هو منها كالأعلام والياقوت والرماح والزبرجد, كل واحد منها محسوس بالبصر.

والمراد بالعقلي, ما لا يكون -هو ولا مادته- مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة. فدخل فيه الوهمي, أي ما هو غير مدرك بها, ولكنه بحيث لو أدرك لكان مدركا بها.

كما في امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فان الأنياب الأغوال مما لا يدركه الحس لعدم تحققها, مع أنها لو أدركت لم تدرك إلا بحس البصر. وعليه قولع تعالى "طلعها كأنه رؤوس الشياطين". ودخل فيه أيضاً ما يدرك بالوجدان كالشبع والجوع واللذة والألم الحسيين.

الفصل الثاني في الوجه أعني وجه التشبيه, وهو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه تحقيقا كالشجاعة في الأسد, إذا قلت: زيد كالأسد, أو تخيلا, والمراد به أن لا يوجد ذلك في أحد الطرفين أو كلاهما إلا على سبيل التخييل, والتأويل.

كقول القاضي التنوحي:

وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع

فان وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود, فهي غير موجودة في المشبه به إلا على سبيل التخييل, وذلك أنه لما كانت البدعة وكل ما هو جهل تجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة, فلا يهتدي الطريق, ولا يأمن أن ينال مكروها شبهت بها. ولزم بطريق العكس إذا أريد التشبيه أن تشبه السنة وكل ما هو علم بالنور, وشاع ذلك حتى تخيل أن الثاني مما له بياض وإشراق, نحو: أيتتكم بالحنيفية البيضاء, والأول مما له سواد وظلمة, كقولك: شاهدت سواد الكفر من ناصية فلان, فصار تشبيه النجوم بين دجاها, بسنن بين الابتداع كتشبيهها ببياض الشيب في سواد الشباب. فظهر اشتراك النجوم بين الدجى والسنن بين الابتداع, في كون كل منهما شيئا ذا بياض بين شيء ذي سواد على طريق التأويل, وهو تخييل ما ليس يتلون, متلونا. وعلم أن قوله (لاح بينهم ابتداع) على سبيل القلب, والمعنى: سنن لاحت بين الابتداع. قيل: وكانت النكتة بيان كثرة السنن, حتى كأن البدعة هي التي تلمع من بينها.

ومن التشبه التخييلي قول أبي طالب الرقي:

لقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا فيقال: من لم يعشق في عيني, وأظلمت الدنيا علي, وكان الغزل يدعي القسوة على من لم يعشق, والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. تخيل يوم النوى, وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد, وجعلهما أعرف به وأشهر من الظلام فشبهه بهما.

ومثله قول الآخر:

رب ليل كأنه أملي في ... ك وقد رحت منك بالحرمان

وقول أبي العلاء المعري:

خبرني ماذا كرهت من الشي ... ب فلا علم لي بذنب المشيب

أضياء النهار أم وضح اللؤ ... لؤ أم كونه كثغر الحبيب

واذكري لي فضل الشباب وما ... يجمع من منظر يروق وطيب

غدره بالخليل أم حبه لل ... غي أم أنه كدهر الأديب

وقول الشيخ محمد باقشير المكي يصف سوداء:

زنجية من بنات الزنج تحسبها ... حظي تجسم جثمانا من البشر

وقول ابن طباطبا:

زاهرات كأنها زمن الجا ... هل في حندس كدهر الأديب

ومنه قول القاضي التنوخي:

أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا

فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا

فانه لما كان يقال في الحق: أنه منير واضح فيستعار له صفة الأجسام المنيرة, وفي الظلم خلاف ذلك تخيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام, فشبه النار والفحم بهما مجتمعين.

وقول ابن بابك:

وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا

فان الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة, تخيل أخلاق الكرام شيئا له سعة, وجعله أصلا فيها فشبه الأرض الواسعة بها.

ثم وجه التشبيه إما واحد حقيقة, أو حكماً, وإما متعدد.

<<  <   >  >>