للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإما مركب منهما, كحسن الطلعة, ونباهة الشأن في تشبيه إنسان بالشمس.

ومنه قول ابن الفارض:

لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم

شبه الكأس بالبدر في الاستدارة, وهي حسية, وفي اقتباس النور واستفادة التسمية عند الكمال, وهما عقليان, وشبه المدامة بالشمس في الإشراق؛ وهو حسي؛ وفي إفاضة النور, وهو عقلي, وشبه الساقي بالهلال في سرعة الدوران, وهو حسي؛ وفي استجلاب النواظر, وهو عقلي, وشبه الحبب بالنجم في الهيئة المخصوصة من الاستعارة, والبياض والمقدار المخصوص, وذلك أمر محسوسن وفي أنه يحدث بواسطة المزج بالماء الكاسر سورتها, كما أن ضوء النجم إنما يبدو إذا حجب سلطان الشمس, وهذا الوجه العقلي.

تنبيهات الأول: الوجه الحسي لا يكون طرفاه -أعني المشبه والمشبه به- إلا حسيين, سواه كان بتمامه حسيا أو متعددا مختلفا, لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء. والعقلي أعم, فيجوز أن يكون طرفاه حسيين, وإن يكون عقليين, وأن يكون أحدهما حسيا والآخر عقليا, لجواز أن يدرك بالعقل من الحسي شيء, إذ لا امتناع في قيام المعقول بالمحسوس, بل كل محسوس, فلها أوصاف بعضها حسي وبعضها عقلي, ولذلك يقال: التشبيه بالوجه الحسي بمعنى أن كلما يصح فيه التشبيه أن يكون بالوجه الحسي يصح بالوجه العقلي دون العكس.

الثاني: من حق وجه التشبيه أن يكون شاملا للطرفين, كما إذا جعل وجه الشبه في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام, كون استعمالها مصلحا, وإهمالها مفسدا, دون كون القليل مصلحا, والكثير مفسدا, لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة بخلاف الملح.

ومما يتصل بهذا, ما حكي أن ابن شرف القيرواني أنشد ابن رشيق قوله:

غير جني وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم

وقال له: هل سمعت بهذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: نعم سمعته, وأخذته أنت وأفسدته.

أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول:

لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو رائع

وأما الإفساد, فلأن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه, فلا يكون المعاقب غير الجاني, وهذا بخلاف بين النابغة, فإن المكوي يتألم وما به عر وصاحب العر لا يتألم جملة.

الثالث: قد يعتبر في القسم الثاني من أقسام وجه التشبيه -وهو المتعدد حقيقة- الواحد حكما مجرد الهيئة الحاصلة وقت التشبيه دون سائر الأوصاف, من اللون والشكل وغيرهما.

كما في قول ابن المعتز:

وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا

فانه يشبه حركة البرق بحركة المصحف حين يتم القاري قراءة صفحته فيضم دفتي المصحف ليفتح من الورقة الأخرى, ولم ينظر فيه إلى شيء من أوصاف المشبه والمشبه به, سوى الهيئة الحاصلة من حركة انبساطية عقيب حركة انقباضية.

كما اعتبر مجرد الصفة دون المقدار أيضاً في قوله:

والليل كالحلة السوداء لاح به ... من الصباح طراز غير مرقوم

شبه الليل بالحلة, والصباح بطراز الثوب, ووجه الشبه ظهور شيء أبيض مستطيل خلال سواد شامل, من غير نظر إلى مقدار السواد والبياض, فإن تفاوت المقدار بين الليل والحلة والصبح والطراز شديد. ومنه قوله تعالى "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم" فانه شبه الهلال في هيئة نحوله وتقوسه بالعرجون لا في المقدار, لان في مقدار الهلال عظما في الحقيقة, والعرجون في مرأى النظر أعظم منه.

ومن هذا الباب قوله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب" من وجه, فإن تشبيه عيسى بآدم عليهما السلام في كونهما وجدا بغير أب, من غير نظر إلى أن آدم عليه السلام وجد بغير أم أيضاً بخلاف عيسى عليه السلام. وهذا القدر من المخالفة لا يمنع من إيراد التشبيه. فإن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف.

الرابع: قد يتسامح في وجه, فيسمى ملزوم الوجه وجها, تسهيلا للتناولن كما في تشبيه فصيح الكلام بالعسل في الحلاوة, وبالماء في السلاسة وبالنسيم في الرقة, وتشبيه الحجة البينة التأليف بالشمس في الظهور. فإن الوجه فيها ميل الطبع اللازم للسلاسة, والرقة, وإزالة الحجاب اللازم للظهور, فأقيمت الملزومات مقام اللوازم.

الفصل الثالث في الغرض

<<  <   >  >>