للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد حكي: إن بعض الأعراب لما سمع هذه الآية سجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. انتهى.

وقوله تعالى "فغشيهم من اليم ما غشيهم" أي غشي آل فرعون وجنوده من البحر ما لا يدخل تحت العبارة, ولا يحيط به إلا علم الله تعالى من العذاب, والهلاك, والغضب والانتقام, والاستئصال إلى غير ذلك. دل على ذلك كله كلمة (ما) في قوله (ما غشيهم) . ومثل ذلك قوله تعالى "فأوحى إلى عبده ما أوحى".

ومن الشعر قول امرئ القيس:

على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا وان

فانه أشار بقوله: أفانين جري, إلى جميع صنوف عدو الخيل المحمودة التي لو عبر عنها لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة, واحترز بنفي الكزوزة والونى من الحران, والجمام والعثور.

وقوله:

تظل لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل في مقيل نحسه متغيب

فدل باليوم اللذيذ على جميع ما احتوى عليه من المآكل والمشارب اللذيذة, والملاذ السماعية, وسرور النفس والارتياح, إلى غير ذلك مما لا يتسع له الحصر. وكذا في قوله: تحسه متغيب, من ذهاب الغموم والهموم, والمكاره والمخاوف ونحو ذلك.

وبيت بديعية الصفي قوله:

يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكا كبيرا عدا ما في نفوسهم

قال في شرحه: الإشارة فيه قوله: ملكا كبيرا.

ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية العز الموصلي قوله:

ما تشتهي النفس يهدى في إشارته ... تعطى فنونا بلا من ولا سأم

وبيت بديعية المقري قوله:

محرم قعدة لا في ربيع ندى ... أصب ما فيه لم يخطر على الهمم

قال في شرحه: الإشارة فيه قوله: ما فيه لم يخطر على الهمم.

وبيت بديعية السيوطي قوله:

يا أكرم الرسل يا من في إشارته ... حوز المنى وبلوغ القصد من أمم

وبيت بديعية العلوي قوله:

يفيد بعض نوال أمته ... عزاً وذاماً عظيماً غير منصرم

وبيت بديعية الطبري قوله:

حوى فصائل لا حد يشار لها ... به فيفصح عنه واصف بفم

وبيت بديعيتي قولي:

درى إشارة من وافاه مجتدياً ... فجاد ما جاد مرتاحا بلا سأم

الإشارة فيه قولي: فجاد ما جاد, على حد قوله تعالى "فأوحى إلى عبده ما أوحى" و"فغشيهم من أليم ما غشيهم" والله أعلم.

[تشبيه شيئين بشيئين]

شيئان شبههما شيئان منه لنا ... نداه في المحل مثل البرء في السقم

هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم بشيئين, ويقابلهما بشيئين لأجل التشبيه, وهو على نوعين: أحدهما, أن يكون المقصود تشبيه كل جزء من جزء أحد طرفي التشبيه بما يقابله من الطرف الآخر.

كقول امرئ القيس:

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

شبه الرطب والطري من قلوب الطير بالعناب, واليابس بالحشف البالي. وليس تحت هذا أمر كبير, إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتد بها ويقصد تشبيهها, ولذا قال الشيخ في أسرار البلاغة: إنه إنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه, لا لأن للجمع فائدة في عين التشبيه.

الثاني, أن يكون المقصود تشبيه هيئة حاصلة من مجموع جزئي أحد الطرفين بالهيئة الحاصلة من مجموع الطرف الآخر وإن كان الظاهر فيه تشبيه شيئين بشيئين, وهذا النوع هو الذي تعقد عليه الخناصر, ويعز وقوعه, لا مطلق تشبيه شيئين بشيئين, كما يقتضيه إطلاق شراح البديعيات, وهو على قسمين: أحدهما, ما يكون بحيث يحسن تشبيه كل جزء من جزئي أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر كقوله:

وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق

فانك لو قلت: كأن النجوم درر, وكأن السماء بساط أزرق, كان تشبيها مقبولا حسنا, ولكن أين هو من المقصود من التشبيه وهو الهيئة التي تملأ القلوب سرورا وعجبا من طلوع النجوم صغارها وكبارها, مؤتلفة ومفترقة في أديم السماء وهي زرقاء رزقتها الصافية.

الثاني, ما لا يكون بهذه الحيثية.

كقول القاضي:

أنما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعه

منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه

<<  <   >  >>