للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما البيت ففيه أيضاً إطناب من حيث أن أصل المعنى المقصور: لا أحد منك مهربا. وإيجاز بالحذف لأن الفاء تقتضي معطوفاً عليه، والشرط جزاء. وأيضا فوجه الشبه غير مذكور مع الاحتياج إلى ذكره، لأن تشبيه الممدوح بالليل تشبيه غريب لا يتبادر الذهن منه إلى وجه الشبه بينهما، وربما يوهم خلاف المدح لو لم يذكر الوجه، وإنما لم يعد تقصيرا لدلالة قوله: هو مدركي إلى آخر البيت عليه.

وإيجاز بالقصر، لدلالة تشبيهه بالليل على سعة مملكته، وطول يده، وأن له في جميع الآفاق من يطيع أوامره، ويرد عليه من هرب منه، وان الهارب إذا أدركه سخطه صار بحيث لا يهتدي إلى مهرب وإن كان أهدى من القطا كما أن سلطان الليل يعم ساكني البسيطة، ويسد عليه المسالك بحيث لا يمتاز الطول من العرض، فلا يصح التمثيل بهما للمساواة التي هي واسطة بين الإيجاز والإطناب، ومثل لها التيفاشي بقوله تعالى (ومن قتل مظلوما ُفقد جعلنا لوليه سلطاناً.

وقول زهير:

ومهما تكن عند امرئ من خليفة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

ومثل صاحب المعيار بقول امرئ القيس:

فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا لدم نقصد

وقول خالد بن زهير:

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راضي سيرة من يسيرها

والكلام في جميع هذه الأمثلة مجال.

وقال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته، وتبعه ابن حجة: معظم ما في الكتاب العزيز من قبيل المساواة.

وقال الجلال السيوطي في الإتقان: أن المساواة لا تكاد توجد خصوصا في القرآن. الثابي هل هي محمودة، أولا محمودة ولا مذمومة؟.

فالقويني والتيفاشي والزنجاني وجميع أصحاب البديعيات على أنها محمودة، بل معدودة من البلاغة التي وصف بها الوصاف أحد البلغاء كانت ألفاظه قوالب لمعانيه. وهذا قول من أدخلها في قسم الإيجاز أيضاً. وأما السكاكي وإتباعه فعلى الثاني، لأنهم فسروها بالمتعارف من كلام أوساط الناس الذين ليسوا في رتبة البلاغة.

وبيت بديعية الصفي قوله:

وقد مدحت بما تم البديع به ... من حسن مفتتح منه ومختتم

ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية الموصلي قوله:

خطت مساواة معناه وصورته ... في الحسن شاهده في آن والقلم

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم

وبيت بديعية المقري قوله:

أجارني عنك بالإحسان في مدح ... فيك اقترحن بأمر منه منحتم

وبيت بديعية العلوي قوله: كلامه من كلام الرب مأخذه=والاسم من اسمه قد شق حين سمي وبيت بديعيتي قولي: فمن يساويك في بأس وفي كرم=وأنت أفضل مبعوث إلى الأمم ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع والله أعلم.

[براعة الطلب]

براعتي أنت التصريح في طلبي ... لما رأت من غوادي جودك السجم

هذا النوع من مستخرجات الشيخ الإمام عز الدين عبد الوهاب الزنجاني في كتابه معيار النظار، وهو عبارة عن أن تكون ألفاظ الطلب مهذبة خالية عن الإلحاف، مشعرة بما نفس الطالب من غير تصريح، بعد تعظيم الممدوح، وتقديم الوسيلة الحاملة للمسؤول على إنجاح الطلب، وهذا هو الموضع الثالث من المواضع الأربع التي نبه أرباب البلاغة على التألق فيها لأنه إذا كان على الصفة المذكورة كان أنجح المطلب، وآكد في قضاء الغرض.

ومثاله من التنزيل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (فرأيتم ما كنتم تعبدون، أتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، الذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.

ومن النظم قول أمية بن (أبي) الصلت:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك أن شيمتك الحياة

إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء

وقول أبي الطيب:

وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب

<<  <   >  >>