للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وممّا يناسب هذه القضيّة وهو من التعريض بالأفعال دون الأقوال - وهذا وإن كان ذكره في باب التعريض أليق إلاّ أنّ فيه شبهاً بهذه القضيّه - ما ذكر أنّ الأخوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه فقال: إنّ رجلاً لا نعرفه جائنا فلمّا دنا منّا بحيث نراه نزل عن راحلته فعلق على شجرة وطباً من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة ووضع صرّة من تراب وحزمة من شوك ثمّ أثار راحلته فاستوى عليها وذهب. وكان أيّام حرب تميم وقيس عيلان، فنظر الأخوص في ذلك فعيّ به فقال: أرسلوا إلى قيس بن زهير، فقال: ألم تك أخبرتني أنّه لا يردّ عليك أمر إلاّ عرفت ما فيه ما لم تر نواصي الخيل؟ قال: ما خبرك؟ فأعلمه، فقال: قد تبيّن الصبح لذي عينين، هذا رجل قد أخذت عليه العهود أن لا يكلّمكم ولا يرسل إليكم وإنّه قد جاء فأنذركم: أمّا الحنظلة، فإنّه يخبركم أنّه أتاكم بنوا حنظلة، وأمّا الصرّة، فإنّه يزعم أنّهم عدد كثير، وأمّا الشوك، فيخبركم أنّ لهم شوكة، وأمّا الوطب، فإنّه يدلّكم على قرب القوم وبعدهم، فذوقوه فإن كان حلواً حليباً فالقوم قريبون وإن كان قارصاً فالقوم بعيدون وإن كان مسخاً لا حلواً ولا حامضاً فالقوم لا قريبون ولا بعيدون، فقاموا إلى الوطب فوجوده حليباً، فبادروا إلى الإستعداد وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدّين.

ويناظر هذه الحكاية ما حكي أنّ قتيبة بن مسلم دخل على الحجّاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك وهو يقرؤه ولا يعرف معناه وهو مفكّر، فقال له: ما الذي أحزن الأمير؟ قال: كتاب ورد من أمير المؤمنين ولا أعرف معناه، قال: إن رأى الأمير إعلامي به، فناوله إيّاه وفيه: أمّا بعد فإنّك سالم والسّلام، فقال قتيبة: مالي إن إستخرجت لك ما أراد به؟ قال: ولاية خراسان، قال: إنّه ما يسرّك أيّها الأمير ويقرّ عينك، إنّما أراد قول الشاعر:

يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم

أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر، فولاّه خراسان.

قال في القاموس: وقول الجوهري يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم غلط واستشهاده ببيت عبد الله بن عمر باطل، وهذا البيت لعبد الله بن عمر قاله في ابنه سالم.

وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين قال: خطب الوليد بن عبد الملك فقال: أمير المؤمنين عبد الملك قال: إنّ الحجّاج جلدة مابين عيني وأنفي، ألا وإنّي أقول: إنّ الحجّاج جلدة وجهي كلّه.

وأمّا اللغز وهو الأحجية والمعمى، فإن يجيء المتكلّم بأوصاف أو بوصف في ألفاظ مشتركة من غير الموصوف ويشير بها إلى مقصود مجهول أو اسم بتغيير حروفه وإمّا بتصحيف أو بعكس أو حساب. والحاصل أنّ أنواعه كثيرة ليس هذا محلّ حصرها لتشعّبها، ومدار هذا النوع على الحزر والحدس والفطنة ومعرفة الحساب، ولنودر نبذة من الأمثلة في ذلك، قال بعضهم في الضرس:

وصاحب لا أملُّ الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

ما إن رأيت له شخصاً فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا آخر الأبد

وقال الحريري في الميل:

وما ناكح أختين سرّاً وجهرة ... وليس عليه في النكاح سبيل

متى يغش هذي يغش في الحال هذه ... وإن مال بعل لم تجده يميل

يزيدهما عند المشيب تعاهداً ... وبرّاً وهذا في الفحول قليل

وقال الآخر في الخيمة:

ومضروبة من غير ذنب أتت به ... إذا ما هدى الله الأنام أضلّت

وقال بعضهم في اسم عثمان:

حروفه معدودة خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان

وقال الآخر في القلم:

وذي شحوب راكع ساجد ... ودمعه من عينه جاري

ملازم الخمس لأوقاتها ... معتكف في خدمة الباري

وقال الآخر في الميزان:

وقاضي قضاة يفصل الحكم ساكتاً ... وبالحق يقضي لا يبوح فينطق

قضى بلسان لا يميل وإن يمل ... على أخد الخصمين فهو مصدق

وقال الآخر فيه:

وما حاكم أعمى وفصلٌ قضاؤه ... ولو كان ذا عين لما قام بالفصل

وفي هذا القدر من الأمثلة كفاية، لأنّ هذا الباب واسع جدّاً لا تحصى أمثلته لكثرتهما.

[الباب الثاني عشر في قافية السين]

[وفيها فصل في المديح]

قلت في مدحه هذه القطعة الموجزة:

أدر يا نديم علينا الكؤسا ... فقد شاقت الراح منّا النّفوسا

<<  <   >  >>