للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالبيت الأوّل تمّ كلامه قبل القافية بقوله: رسوماً كأخلاق الرداء، ولمّا احتاج إليها وأتى بها بقوله: المسلسل أفاد معنىً زائداً، وكذلك صنع في البيت الثاني فإنّه لمّا تمّ كلامه قبل القافية بقوله: كتبديد الجمان، واحتاج إليها وأتى بها بقوله: المفصل، أفاد معنىً زائداً لو لم يأت بها لم يحصل ذلك المعنى.

وقال بعضهم: الإيغال مأخوذ من إيغال السير وهو الإسراع وقطع منتهى الأرض وذلك أنّ الشاعر إذا استكمل بيته بتمامه أتى بقافية معنىً زائداً على معنى البيت فكأنّه قد أوغل الفكر حتّى استخرجها.

وحكي عن الأصمعي أنّه سُئِل عن أشعر النّاس، قال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، أو ينقضي كلامه قبل القافية فإن احتاج إليها أفاد معنىً. فقيل له: نحو من؟ قال: نحو الفاتح لأبواب المعاني امرؤ القيس وذلك حيث قال:

كان عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يشقب

ونحو قول زهير:

كان فتات العهن في كلّ منزل ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطم

فكلام امرؤ القيس إنتهى إلى قوله: الجزع، فأفاد معنىً زائداً بقوله: لم يثقب، ومعنى قول زهير إنتهى في الكلام إلى قوله: حبّ الفنا، فأفاد معنىً زائداً بقوله: لم يحطم. وبيان الزيادة فيهما هو أنّ امرؤ القيس شبّه عيون الوحش بالجزع وهو الخرز اليماني الذي فيه سواد وبياض، لكنّه أتى بقوله: لم يثقب، إيغالاً وتحقيقاً للتشبيه، لأنّ الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.

قال الأصمعي: الظبي والبقرة إذا كانا حيّين فعيونهما كلّها سود فإذا ماتا بدا بياضهما وإنّما شبّهها بالجزع وفيه بياض وسواد بعد ما ماتت، والمراد كثرة الصيد، يعني ممّا أكلنا كثرت العيون عندنا.

وزهير شبّه ما تفتت من العهن بحبّ الفنا - والفنا شجر ثمره أحمر وفيه نقط سود وقال الفرا: هو عنب الثعلب -، فلمّا قال زهير بعد تمام معنى بيته: لم يحطم، أراد أن يكون حبّ الفنا صحيحاً لأنّه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة.

وقيل: كان الرشيد يعجب من قول مسلم بن الوليد:

إذا ما علت منّا ذوابة شارب ... تمشّت به مشي المقيّد في الوحل

وكان يقول: قاتله الله ما كفاه أن يجعله مقيّداً حتّى جعله مقيّداً في وحل.

وحكي أنّ بعض الشعراء قال لأبي بكر بن مجير: إنّي نظمت قصيدة وأعجزني روي بيت واحد فما أدري كيف أتمّمه؟ قال له أبوبكر: أنشدنيه، فأنشده: "قوله سليل الإمام وصنو الإمام وعمّ الإمام" فقال له من غير تفكّر ولا رويّة: قل: "ولا منتهى" فوضعه في قصيدته على ما تمّمه وكان أمكن قوافيه وأقواها.

ويشبه هذه القضيّة وإن لم يكن ممّا نحن فيه إذ ليس هو من الإيغال بشيء ما حكي أنّ زهير بن أبي سلمى قال بيتاً ونصف البيت الثاني ثمّ أكدى، فمرّ به النابغة الذبياني فقال له: يا أبا أمامة أجز، قال: ماذا؟ قال:

تراك الأرض أمّا متَّ خفاً ... وتحيى ما حييت بها ثقيلا

نزلت بمستقرّ العزّ منها، ثمّ قال: فماذا؟ قال: فأكدى والله النابغة. وأقبل كعب بن زهير وهو غلام فقال أبوه: أجز يا بني، فقال: ماذا؟ فأنشده البيت الأوّل ومن البيت الثاني قوله: نزلت بمستقرّ العزّ منها، فقال كعب: فتمنع جانبيها أن يزولا، فقال زهير: أنت والله ابني.

ويعجبني قول عمّنا المهدي في الهاشميين، فلقد أوغل أحسن الإيغال وأبدع فيما قال:

وحين قامت على ساق جئت غضباً ... لها بنوا مضر الحمراء على الرّكب

من تحتهم لو تزول الأرض لانتصبوا ... على الهوى هضباً أرسى من الهضب

فقوله: أرسى من الهضب إيغال وأظنّه لم يُسْبَق إلى هذا المعنى وهو من معانيه الفريدة.

[الفصل الثاني في الرثاء]

قلت في رثاء الورع التقي، والنّاسك النقي شيخنا الشيخ محسن ابن الشيخ حسين الملقّب بمصبح الحلّي وقد رثيت أباه قبله بقصيدة حائيّة لم يحضرني منها سوى بيت أرّخت فيه عام وفاته وقد اشتمل على التورية فأحببت ذكره هنا، وهو قولي:

ومذ راح للجنّات قلت مؤرّخاً ... لا طيب ظلّيها حسين مصبح

فأمّا مرثية العالم العامل، والفريد الكامل الشيخ محسن المشار إليه طاب مرقده فهي هذه:

بكيت لمحمول إلى القبر في نعش ... سرى حاملوه في الثرى وهو في العرش

<<  <   >  >>