للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَالُوا: حَضَرْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمْ نَجِدْ مَا حَكَاهُ مِنْ الْوَاقِعَةِ أَصْلًا.

الرَّابِعُ: مَا سَكَتَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ عَنْ نَقْلِهِ وَالتَّحَدُّثِ بِهِ مَعَ جَرَيَانِ الْوَاقِعَةِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُمْ وَمَعَ إحَالَةِ الْعَادَةِ السُّكُوتَ عَنْ ذِكْرِهِ لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِأَنَّ أَمِيرَ الْبَلْدَةِ قُتِلَ فِي السُّوقِ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ وَلَمْ يَتَحَدَّثْ أَهْلُ السُّوقِ بِهِ فَيُقْطَعُ بِكَذِبِهِ، إذْ لَوْ صَدَقَ لَتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَلَأَحَالَتْ الْعَادَةُ اخْتِصَاصَهُ بِحِكَايَتِهِ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَرَفْنَا كَذِبَ مَنْ ادَّعَى مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ وَنَصَّ الرَّسُولِ عَلَى نَبِيٍّ آخَرَ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ أَعْقَبَ جَمَاعَةً مِنْ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ، وَنَصَّهُ عَلَى إمَامٍ بِعَيْنِهِ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، وَفَرْضَهُ صَوْمَ شَوَّالٍ وَصَلَاةَ الضُّحَى وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا إذَا كَانَ أَحَالَتْ الْعَادَةُ كِتْمَانَهُ.

فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَفَرَّدَ الْآحَادُ بِنَقْلِ مَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَيْهِ حَتَّى وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، كَإِفْرَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ أَوْ قِرَانِهِ، وَكَدُخُولِهِ الْكَعْبَةَ وَصَلَاتِهِ فِيهَا، وَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ عَنْوَةً، وَقَبُولِهِ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَانْفِرَادِ الْأَعْرَابِيِّ بِالرُّؤْيَةِ حَتَّى لَمْ يُشَارِكْهُ أَحَدٌ فِيهِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ إلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَدَدٌ يَسِيرٌ مَعَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرَاهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَبَادٍ وَحَاضِرٍ، وَنَقَلَ النَّصَارَى مُعْجِزَاتِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يَنْقُلُوا كَلَامَهُ فِي الْمَهْدِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَلَامَاتِ، وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَنْقُلُوا بَقِيَّةَ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَنَقْلِ الْقُرْآنِ فِي الشُّيُوعِ، وَنَقَلَ النَّاسُ أَعْلَامَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَنْقُلُوا أَعْلَامَ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ سُوَرَ الْقُرْآنِ وَلَمْ تَنْقُلْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ نَقْلَ غَيْرِهِمَا حَتَّى خَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَوْنِهِمَا مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ أَيْضًا.

فَكُلُّ هَذَا نَقْضٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ إفْرَادَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِرَانَهُ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَنْكَشِفَ وَأَنْ يُنَادِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْكَافَّةِ، بَلْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى نِيَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهُ. نَعَمْ ظَهَرَ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ تَعْلِيمُهُ النَّاسَ الْإِفْرَادَ وَالْقِرَانَ جَمِيعًا. وَأَمَّا دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَصَلَاتُهُ فِيهَا فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ نَفَرٍ يَسِيرٍ وَمَعَ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ وَلَا يَقَعُ شَائِعًا، كَيْفَ وَلَوْ وَقَعَ شَائِعًا لَمْ تَتَوَفَّرْ الدَّوَاعِي عَلَى دَوَامِ نَقْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَا مِنْ فَرَائِضِهِ وَمُهِمَّاتِهِ؟ وَأَمَّا دُخُولُهُ مَكَّةَ عَنْوَةً فَقَدْ صَحَّ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ دُخُولُهُ مُتَسَلِّحًا مَعَ الْأَلْوِيَةِ وَالْأَعْلَامِ وَتَمَامِ التَّمَكُّنِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَبَذْلِهِ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ وَلِمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَاعْتَصَمَ بِالْكَعْبَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَلَكِنْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ وَدَى قَوْمًا قَتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا.

وَوُقُوعُ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لِلْآحَادِ مُمْكِنٌ إلَى أَنْ تُزَالَ بِالنَّظَرِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِنَهْيٍ خَاصٍّ عَنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَلِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ. وَأَمَّا انْفِرَادُ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَمُمْكِنٌ، وَقَدْ يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى لِخَفَاءِ الْهِلَالِ وَدِقَّتِهِ، فَيَنْفَرِدُ بِهِ مَنْ يَحْتَدُّ بَصَرُهُ وَتَصْدُقُ فِي الطَّلَبِ رَغْبَتُهُ وَيَقَعُ عَلَى مَوْضِعِ الْهِلَالِ بَصَرُهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ أَوْ اتِّفَاقٍ. وَأَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَهِيَ آيَةٌ لَيْلِيَّةٌ وَقَعَتْ وَالنَّاسُ نِيَامٌ غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي لَحْظَةٍ فَرَآهُ مَنْ نَاظَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرَيْشٍ وَنَبَّهَهُ عَلَى النَّظَرِ لَهُ وَمَا انْشَقَّ مِنْهُ إلَّا شُعْبَةٌ، ثُمَّ عَادَ صَحِيحًا فِي لَحْظَةٍ، فَكَمْ مِنْ انْقِضَاضِ كَوْكَبٍ وَزَلْزَلَةٍ وَأُمُورٍ هَائِلَةٍ مِنْ رِيحٍ

<<  <   >  >>