للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْعُقُوبَاتِ.

ثُمَّ الْمَجْهُولُ مَرْدُودٌ فِي الْعُقُوبَاتِ، وَطَرِيقُ الثِّقَةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَجْهُولَ الَّذِي لَا يُدْرَى أَنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا، لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ عَالِمٌ أَمْ لَا، بَلْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ وَفِسْقُهُ فَلَا يُقْبَلُ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ حِكَايَةِ الْمُفْتِي عَنْ نَفْسِهِ اجْتِهَادَهُ وَبَيْنَ حِكَايَتِهِ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ لَا تُسْمَعُ مَا لَمْ يُعَيِّنْ الْفَرْعُ شَاهِدَ الْأَصْلِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَمْ يَجِبْ تَعْيِينُهُ وَتَعْرِيفُهُ إنْ كَانَ قَوْلُ الْمَجْهُولِ مَقْبُولًا.

وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْمَجْهُولِ، وَلَا جَوَابَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُهُ ذِكْرُ شَاهِدِ الْأَصْلِ، فَلَعَلَّ الْقَاضِيَ يَعْرِفُهُ بِفِسْقٍ فَيَرُدُّ شَهَادَتَهُ. قُلْنَا: إذَا كَانَ حَدُّ الْعَدَالَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ فِسْقٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ التَّتَبُّعُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفِسْقُ. ثُمَّ يَبْطُلَ مَا ذَكَرَهُ بِالْخَبَرِ الْمُرْسَلِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا ذِكْرَ الشَّيْخِ وَلَعَلَّ الْمَرْوِيَّ لَهُ يَعْرِفُ فِسْقَهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّ مُسْتَنَدنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَهُمْ قَدْ رَدُّوا خَبَرَ الْمَجْهُولِ، فَرَدَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَالَ: كَيْفَ نَقْبَلُ قَوْلَ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَرَدَّ عَلِيٌّ خَبَرَ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوِّضَةِ وَكَانَ يُحَلِّفُ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا يُحَلِّفُ مَنْ عُرِفَ مِنْ ظَاهِرِهِ الْعَدَالَةُ دُونَ الْفِسْقِ. وَمَنْ رَدَّ قَوْلَ الْمَجْهُولِ مِنْهُمْ كَانَ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَانُوا بَيْنَ رَادٍّ وَسَاكِتٍ، وَبِمِثْلِهِ ظَهَرَ إجْمَاعُهُمْ فِي قَبُولِ الْعَدْلِ إذْ كَانُوا بَيْنَ قَابِلٍ وَسَاكِتٍ غَيْرِ مُنْكِرٍ وَلَا مُعْتَرِضٍ.

السَّادِسُ: مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَبِهِ الْعَدَالَةَ وَالْعَفَافَ وَصِدْقَ التَّقْوَى مِمَّنْ كَانَ يُنْفِذُهُ لِلْأَعْمَالِ وَأَدَاءِ الرَّسَالَةِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ الْأَشَدَّ التَّقْوَى لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ كَلَّفَهُمْ أَنْ لَا يَقْبَلُوا إلَّا قَوْلَ الْعَدْلِ. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْقَطْعِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ. شُبَهُ الْخُصُومِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ:

الْأُولَى: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامَ.

قُلْنَا: وَكَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ عِنْدَهُ إمَّا بِالْوَحْيِ وَإِمَّا بِالْخِبْرَةِ وَإِمَّا بِتَزْكِيَةِ مَنْ عُرِفَ حَالُهُ، فَمَنْ يُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّهُ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبِلُوا قَوْلَ الْعَبِيدِ وَالنِّسْوَانِ وَالْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ بِالْفِسْقِ وَعَرَفُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ. قُلْنَا: إنَّمَا قَبِلُوا قَوْلَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَزْوَاجِ أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ عَدَالَتُهُنَّ وَعَدَالَةُ مَوَالِيهِمْ مَشْهُورَةً عِنْدَهُمْ وَحَيْثُ جَهِلُوا رُدُّوا، كَرَدِّ قَوْلِ الْأَشْجَعِيِّ وَقَوْلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ لَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ وَشَهِدَ فِي الْحَالِ أَوْ رَوَى، فَإِنْ قُلْتُمْ لَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِنْ قَبِلْتُمْ فَلَا مُسْتَنَدَ لِلْقَبُولِ إلَّا إسْلَامَهُ وَعَدَمَ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ مِنْهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةٌ وَلَمْ نَعْرِفْ مِنْهُ فِسْقًا لِطُولِ مُدَّةِ إسْلَامِهِ لَمْ نُوجِبْ رَدَّهُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ قَبُولَ رِوَايَتِهِ فَقَدْ يُسْلِمُ الْكَذُوبُ وَيَبْقَى عَلَى طَبْعِهِ، فَمَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى خَوْفٍ فِي قَلْبِهِ وَازِعٍ عَنْ الْكَذِبِ لَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَالتَّقْوَى فِي الْقَلْبِ وَأَصْلُهُ الْخَوْفُ وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ فَإِنْ سَلَّمْنَا قَبُولَ رِوَايَتِهِ فَذَلِكَ لِطَرْقِ إسْلَامِهِ وَقُرْبِ عَهْدِهِ بِالدِّينِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي طَرَاوَتِهِ وَبِدَايَتِهِ وَبَيْنَ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِطُولِ الْإِلْفِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا رَجَعَتْ الْعَدَالَةُ إلَى هَيْئَةٍ بَاطِنَةٍ فِي النَّفَسِ وَأَصْلُهَا الْخَوْفُ، وَذَلِكَ لَا يُشَاهَدُ بَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ، بَلْ هُوَ مُغَلَّبٌ عَلَى الظَّنِّ، فَأَصْلُ ذَلِكَ الْخَوْفِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ دَلَالَةً -

<<  <   >  >>