للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُدْرَكًا لَكَانَ تَعَلُّمُهَا وَنَقْلُهَا وَحِفْظُهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَالْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَلَوَجَبَ عَلَى الصَّحَابَةِ مُرَاجَعَتُهَا فِي تَعَرُّفِ الْأَحْكَامِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْمُنَاشَدَةُ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ وَلَرَجَعُوا إلَيْهَا فِي مَوَاضِعِ اخْتِلَافِهِمْ حَيْثُ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ كَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَمِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْمُفَوَّضَةِ وَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَحَدِّ الشُّرْبِ وَالرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَدِيَةِ الْجَنِينِ وَحُكْمِ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النُّجُومِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْوَطْءِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ لَا تَنْفَكُّ الْأَدْيَانُ وَالْكُتُبُ عَنْهَا وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ طُولِ أَعْمَارِهِمْ وَكَثْرَةِ وَقَائِعِهِمْ وَاخْتِلَافَاتهمْ مُرَاجَعَةُ التَّوْرَاةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ مَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ إلَّا بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ الْكِتَابِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْقِيَاسُ قَبْلَ الْعِلْمِ؟

الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: إطْبَاقُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ نَاسِخَةٌ، وَأَنَّهَا شَرِيعَةُ رَسُولِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجُمْلَتِهَا، وَلَوْ تَعَبَّدَ بِشَرْعٍ غَيْرِهَا لَكَانَ مُخْبِرًا لَا شَارِعًا، وَلَكَانَ صَاحِبَ نَقْلٍ لَا صَاحِبَ شَرْعٍ.

إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ إضَافَةٌ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِوَاسِطَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ شَارِعًا لِجَمِيعِهِ، وَلِلْمُخَالِفِ التَّمَسُّكُ بِخَمْسِ آيَاتٍ وَثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ:

الْآيَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠] قُلْنَا أَرَادَ بِالْهُدَى التَّوْحِيدَ، وَدَلَالَةُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَصِفَاتِهِ بِدَلِيلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠] وَلَمْ يَقُلْ بِهِمْ، وَإِنَّمَا هُدَاهُمْ الْأَدِلَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ مَنْسُوبَةً إلَيْهِمْ، أَمَّا الشَّرْعُ فَمَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ اقْتِدَاءً بِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ كَيْفَ أَمَرَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِمْ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ وَنَاسِخَةٌ وَمَنْسُوخَةٌ وَمَتَى بَحَثَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَشَرَائِعُهُمْ كَثِيرَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ التَّوْحِيدُ.

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: ١٢٣] وَهَذَا يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ نَسَبَهُ إلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَتُعَارِضُهُ الْآيَةُ الْأُولَى. ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِيهَا إذْ قَالَ: {أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} [النحل: ١٢٣] فَوَجَبَ بِمَا أَوْحَى إلَيْهِ لَا بِمَا أُوحِيَ إلَى غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: {أَنْ اتَّبِعْ} [النحل: ١٢٣] أَيْ: افْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كُنْ مُتَّبِعًا لَهُ وَوَاحِدًا مِنْ أُمَّتِهِ، كَيْفَ وَالْمِلَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّقْدِيسِ الَّذِي تَتَّفِقُ فِيهِ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: ١٣٠] وَلَا يَجُوزُ تَسْفِيهُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْحَثْ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَبْحَثُ مَعَ انْدِرَاسِ كِتَابِهِ وَإِسْنَادِ أَخْبَارِهِ؟

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: ١٣] وَهَذَا يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ نَسَبَهُ إلَى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَهُوَ فَاسِدٌ، إذْ تُعَارِضُهُ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ. ثُمَّ الدِّينُ عِبَارَةٌ عَنْ أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ نُوحًا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَخْصِيصًا، وَمَتَى رَاجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْصِيلَ شَرْعِ نُوحٍ؟ وَكَيْف أَمْكَنَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ أَقْدَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشَدُّ الشَّرَائِعِ انْدِرَاسًا؟ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: ١٣] فَلَوْ قَالَ شَرَعَ لِنُوحٍ مَا وَصَّاكُمْ بِهِ " لَكَانَ رُبَّمَا دَلَّ هَذَا عَلَى غَرَضِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَيُصَرِّحُ بِضِدِّهِ.

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: ٤٤] الْآيَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَنْبِيَاءِ

<<  <   >  >>