للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَبْدَإِ اللُّغَاتِ.

وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ، إذْ كَيْفَ تَكُونُ تَوْقِيفًا وَلَا يُفْهَمُ التَّوْقِيفُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ صَاحِبِ التَّوْقِيفِ مَعْرُوفًا لِلْمُخَاطَبِ بِاصْطِلَاحٍ سَابِقٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، إذْ الِاصْطِلَاحُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِخِطَابٍ وَمُنَادَاةٍ وَدَعْوَةٍ إلَى الْوَضْعِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِلَفْظٍ مَعْرُوفٍ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ لِلِاصْطِلَاحِ وَقَالَ قَوْمٌ: الْقَدْرُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّنْبِيهُ وَالْبَعْثُ عَلَى الِاصْطِلَاحِ يَكُونُ بِالتَّوْقِيفِ وَمَا بَعْدَهُ يَكُونُ بِالِاصْطِلَاحِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّظَرَ فِي هَذَا إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْجَوَازِ أَوْ فِي الْوُقُوعِ. أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ فَشَامِلٌ لِلْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ وَالْكُلُّ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ. أَمَّا التَّوْقِيفُ فَبِأَنْ يَخْلُقَ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ وَيَخْلُقَ لَهُمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهَا قُصِدَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ وَالْقُدْرَةُ الْأَزَلِيَّةُ لَا تَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الِاصْطِلَاحُ فَبِأَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ دَوَاعِيَ جَمْعٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ لِلِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ مُهِمُّهُمْ وَحَاجَتُهُمْ مِنْ تَعْرِيفِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا، فَيَبْتَدِئَ وَاحِدٌ وَيَتَّبِعَهُ الْآخَرُ حَتَّى يَتِمَّ الِاصْطِلَاحُ؛ بَلْ الْعَاقِلُ الْوَاحِدُ رُبَّمَا يَنْقَدِحُ لَهُ وَجْهُ الْحَاجَةِ وَإِمْكَانُ التَّعْرِيفِ بِتَأْلِيفِ الْحُرُوفِ فَيَتَوَلَّى الْوَضْعَ ثُمَّ يُعَرِّفُ الْآخَرِينَ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّكْرِيرِ مَعَهَا لِلَّفْظِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، كَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدَانِ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَكَمَا يَعْرِفُ الْأَخْرَسُ مَا فِي ضَمِيرِهِ بِالْإِشَارَةِ، وَإِذَا أَمْكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَمْكَنَ التَّرْكِيبُ مِنْهُمَا جَمِيعًا.

أَمَّا الْوَاقِعُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَلَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَتِهِ يَقِينًا إلَّا بِبُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ بِتَوَاتُرِ خَبَرٍ أَوْ سَمْعٍ قَاطِعٍ، وَلَا مَجَالَ لِبُرْهَانِ الْعَقْلِ فِي هَذَا وَلَمْ يُنْقَلْ تَوَاتُرٌ وَلَا فِيهِ سَمْعٌ قَاطِعٌ فَلَا يَبْقَى إلَّا رَجْمُ الظَّنِّ فِي أَمْرٍ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ تَعَبُّدٌ عَمَلِيٌّ وَلَا تُرْهِقُ إلَى اعْتِقَادِهِ حَاجَةٌ، فَالْخَوْضُ فِيهِ إذًا فُضُولٌ لَا أَصْلَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا:} [البقرة: ٣١] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِوَحْيٍ وَتَوْقِيفٍ، فَيَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحَالَةِ خِلَافِهِ. قُلْنَا: وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى الْوُقُوعِ أَيْضًا، إذْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ أَرْبَعَةُ احْتِمَالَاتٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَاجَةَ إلَى الْوَضْعِ فَوَضَعَ بِتَدْبِيرِهِ وَفِكْرِهِ وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى تَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْهَادِي وَالْمُلْهِمُ وَمُحَرِّكُ الدَّاعِيَةِ كَمَا تُنْسَبُ جَمِيعُ أَفْعَالِنَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى

الثَّانِي: أَنَّ الْأَسْمَاءَ رُبَّمَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِاصْطِلَاحٍ مِنْ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ آدَمَ مِنْ الْجِنِّ أَوْ فَرِيقٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَعَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَوَاضَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَسْمَاءَ صِيغَةُ عُمُومٍ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ أَسْمَاءَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ دُونَ الْأَسَامِي الَّتِي حَدَثَتْ مُسَمَّيَاتُهَا بَعْدَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْآلَاتِ، وَتَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى كُلَّهَا كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: ٢٣] وقَوْله تَعَالَى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: ٢٥] وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إذْ يَخْرُجُ عَنْهُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ.

الرَّابِعُ أَنَّهُ بِمَا عَلِمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ ثُمَّ اصْطَلَحَ بَعْدَهُ أَوْلَادُهُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ الْمَعْهُودَةِ الْآنَ، وَالْغَالِبُ أَنَّ أَكْثَرَهَا حَادِثَةٌ بَعْدُ.

[الْفَصْلُ الثَّانِي الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ هَلْ تَثْبُتُ قِيَاسًا]

الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ هَلْ تَثْبُتُ قِيَاسًا الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ هَلْ تَثْبُتُ قِيَاسًا.

وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمَّوْا الْخَمْرَ مِنْ الْعِنَبِ خَمْرًا؛ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ، فَيُسَمَّى النَّبِيذُ خَمْرًا لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» وَسُمِّيَ الزَّانِي زَانِيًا؛ لِأَنَّهُ مُولِجٌ فَرْجَهُ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ اللَّائِطُ فِي إثْبَاتِ اسْمِ

<<  <   >  >>