للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مِثْلِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ إذَا اُعْتُضِدَ بِنَصٍّ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» نَصٌّ فِي إثْبَاتِ رِبَا الْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» حَصْرٌ لِلرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَنَفْيٌ لِرِبَا الْفَضْلِ؛ فَالْجَمْعُ بِالتَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الِاحْتِمَالُ الْبَعِيدُ كَالْقَرِيبِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، فَإِنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ لَا تُمْكِنُ مُخَالَفَتُهُ بِوَجْهٍ مَا، وَالِاحْتِمَالُ الْبَعِيدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ إلَّا بِالنَّصِّ بِالْوَضْعِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ قَرِيبٌ وَلَا بَعِيدٌ.

وَمَهْمَا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَرِيبًا وَكَانَ الدَّلِيلُ أَيْضًا قَرِيبًا وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ وَالْمَصِيرُ إلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، فَلَيْسَ كُلُّ تَأْوِيلٍ مَقْبُولًا بِوَسِيلَةِ كُلِّ دَلِيلٍ بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ، إلَّا أَنَّا نَضْرِبُ أَمْثِلَةً فِيمَا يُرْتَضَى مِنْ التَّأْوِيلِ وَمَا لَا يُرْتَضَى وَنَرْسُمُ فِي كُلِّ مِثَالٍ مَسْأَلَةً وَنَذْكُرُ لِأَجْلِ الْمِثَالِ عَشْرَ مَسَائِلَ خَمْسَةً فِي تَأْوِيلِ الظَّاهِرِ وَخَمْسَةً فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.

[مَسْأَلَة التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَقَدْ تَجْتَمِعُ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ]

وَآحَادُ تِلْكَ الْقَرَائِنِ لَا تَدْفَعُهُ، لَكِنْ يَخْرُجُ بِمَجْمُوعِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْقَدِحًا غَالِبًا، مِثَالُهُ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " لِغَيْلَانَ حِينَ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ حِينَ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ: «أَمْسِكْ إحْدَاهُمَا وَفَارِقْ الْأُخْرَى» ، فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ النِّكَاحِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرَادَ بِهِ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، أَيْ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا فَانْكِحْهُنَّ وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ، أَيْ: انْقَطِعْ عَنْهُنَّ وَلَا تَنْكِحْهُنَّ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْإِمْسَاكِ الِاسْتِصْحَابُ وَالِاسْتِدَامَةُ.

وَمَا ذَكَرَهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ وَيَعْتَضِدُ احْتِمَالُهُ بِالْقِيَاسِ، إلَّا أَنَّ جُمْلَةً مِنْ الْقَرَائِنِ عَضَّدَتْ الظَّاهِرَ وَجَعَلَتْهُ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ التَّأْوِيلِ.

أَوَّلُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَسْبِقْ إلَى أَفْهَامِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إلَّا الِاسْتِدَامَةُ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ السَّابِقُ إلَى أَفْهَامِنَا؛ فَإِنَّا لَوْ سَمِعْنَاهُ فِي زَمَاننَا لَكَانَ هُوَ السَّابِقَ إلَى أَفْهَامِنَا

الثَّانِي: أَنَّهُ قَابَلَ لَفْظَ الْإِمْسَاكِ بِلَفْظِ الْمُفَارَقَةِ وَفَوَّضَهُ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَلْيَكُنْ الْإِمْسَاكُ وَالْمُفَارَقَةُ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُمْ الْفِرَاقُ وَاقِعٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لَذَكَرَ شَرَائِطَهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَمَا أَحْوَجَ جَدِيدُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَعْرِفَ شُرُوطَ النِّكَاحِ

الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي اطِّرَادِ الْعَادَةِ انْسِلَاكُهُنَّ فِي رِبْقَةِ الرِّضَا عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ جَمِيعُهُنَّ فَكَيْفَ أَطْلَقَ الْأَمْرَ مَعَ هَذَا الْإِمْكَانِ؟

الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " أَمْسِكْ " أَمْرٌ ظَاهِرُهُ الْإِيجَابُ، فَكَيْفَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَجِبْ؟ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَنْكِحَ أَصْلًا.

السَّادِسُ: أَنَّهُ رُبَّمَا أَرَادَ أَنْ لَا يَنْكِحَهُنَّ بَعْدَ أَنْ قَضَى مِنْهُنَّ وَطَرًا، فَكَيْفَ حَصَرَهُ فِيهِنَّ؟ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: انْكِحْ أَرْبَعًا مِمَّنْ شِئْتَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ كَسَائِرِ نِسَاءِ الْعَالَمِ.

فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْقَرَائِنِ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهَا فِي تَقْرِيرِ التَّأْوِيلِ وَرَدِّهِ وَآحَادُهَا لَا يُبْطِلُ الِاحْتِمَالَ لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ يُشَكِّكُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ وَيَصِيرُ اتِّبَاعُ الظَّاهِرِ بِسَبَبِهَا أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ اتِّبَاعِ الْقِيَاسِ، وَالْإِنْصَافُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَّا فَلَسْنَا نَقْطَعُ بِبُطْلَانِ تَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَذْلِيلُ الطَّرِيقِ لِلْمُجْتَهِدِينَ

<<  <   >  >>