للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفِعْلُ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ مُوجِبَ أَخْذِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ سَبَبٍ آخَرَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلْمَالِ وَلِلْعُقُوبَةِ. أَمَّا قَضَاؤُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ فِعْلًا بِعُقُوبَةٍ أَوْ مَالٍ، كَقَضَائِهِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَا يَقُولُ قُضِيَ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا لَمَّا فَعَلَ كَذَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالْقَرِينَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا، وَكَانَ بَيَانًا، وَوَقَعَ فِي زَمَانٍ، وَمَكَانٍ، وَعَلَى هَيْئَةٍ، فَهَلْ يَتْبَعُ الزَّمَانَ، وَالْمَكَانَ، وَالْهَيْئَةَ؟ فَيُقَالُ: أَمَّا الْهَيْئَةُ، وَالْكَيْفِيَّةُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ فَهُوَ كَتَغَيُّمِ السَّمَاءِ وَصَحْوِهَا، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ لَائِقًا بِهِ بِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، كَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِعَرَفَاتٍ، وَالْبَيْتِ، وَاخْتِصَاصِ الصَّلَوَاتِ بِأَوْقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اتَّبَعَ الْمَكَانَ لَلَزِمَ مُرَاعَاةُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ بِعَيْنِهَا، وَوَجَبَ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ انْقَضَى، وَلَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ مِثْلًا، فَيَجِبُ إعَادَةُ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنْ تَكَرَّرَ فِعْلُهُ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَزَمَانٍ وَاحِدٍ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا فَتَقْرِيرُهُ عَلَى الْفِعْلِ، وَسُكُوتُهُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُهُ الْإِنْكَارَ، وَاسْتِبْشَارُهُ بِالْفِعْلِ أَوْ مَدْحُهُ لَهُ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَهَلْ يَكُونُ بَيَانًا؟ قُلْنَا: نَعَمْ، سُكُوتُهُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، وَتَرْكُهُ الْإِنْكَارَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ لَوْ كَانَ حَرَامًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِبْشَارُ بِالْبَاطِلِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ كَمَا نُقِلَ فِي قَاعِدَةِ الْقِيَافَةِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ دَلَالَتُهُ عِنْدَ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيُجَوِّزُ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ، وَإِحَالَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِنْكَارِ مَانِعٌ كَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَلِذَلِكَ فَعَلَهُ، أَوْ بَلَغَهُ الْإِنْكَارُ مَرَّةً فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ فَلَمْ يُعَاوِدْهُ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مَانِعًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ، فَيَلْزَمُهُ تَبْلِيغُهُ، وَنَهْيُهُ حَتَّى لَا يَعُودَ، وَمَنْ بَلَغَهُ، وَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ، وَتَكْرَارُهُ كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ نَسْخُ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ صَبِيحَةَ كُلِّ سَبْتٍ، وَأَحَدٍ عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى إذَا اجْتَمَعُوا فِي كَنَائِسِهِمْ، وَبِيَعِهِمْ؟ قُلْنَا:؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ مَعَ تَبْلِيغِهِ، وَعَلِمَ الْخَلْقُ أَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ دَائِمًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ النَّسْخَ، بِخِلَافِ فِعْلٍ يَجْرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّاتٍ فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ يُوهِمُ النَّسْخَ

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ]

ِ فَنَقُولُ: مَعْنَى التَّعَارُضِ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ أَوْجَبَ كَوْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذِبًا، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَسُولِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْأَحْكَامِ، فَيَتَنَاقَضُ، فَيَرْفَعُ الْأَخِيرُ الْأَوَّلَ، وَيَكُونُ نَسْخًا، وَهَذَا مُتَصَوَّرٌ، وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ التَّعَارُضَ هُوَ التَّنَاقُضُ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَرْضِ الْفِعْلَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ فِي شَخْصَيْنِ، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ وُجُوبِ أَحَدِهِمَا، وَتَحْرِيمِ الْآخَرِ، فَلَا تَعَارُضَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَالْقَوْلُ أَيْضًا لَا يَتَنَاقَضُ، إذْ يُوجَدُ الْقَوْلَانِ فِي حَالَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاقَضُ حُكْمُهُمَا فَكَذَلِكَ يَتَنَاقَضُ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَتَنَاقَضُ حُكْمُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ اقْتَضَى حُكْمًا دَائِمًا، فَيَقْطَعُ الْقَوْلُ الثَّانِي دَوَامَهُ، وَالْفِعْلُ لَا يَدُلُّ أَصْلًا عَلَى حُكْمٍ، وَلَا عَلَى دَوَامِ حُكْمٍ، نَعَمْ لَوْ أَشْعَرَنَا الشَّارِعُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلٍ بَيَانَ دَوَامِ وُجُوبِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَعْدَهُ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، وَقَطْعًا لِدَوَامِ حُكْمٍ ظَهَرَ بِالْفِعْلِ مَعَ تَقَدُّمِ الْإِشْعَارِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مُمْكِنٌ.

وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ

<<  <   >  >>