للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اهْتَدَى، أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ فِي اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَوْ انْفَرَدَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَزِيَادَةُ الْفَضْلِ لَا تُؤَثِّرُ

وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ الْأَفْضَلِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَعْلَمُ وَالصَّوَابَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَغْلَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمَذْهَبِ مُخَالِفِهِ بِالتَّشَهِّي وَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَنْتَقِيَ مِنْ الْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَطْيَبَهَا عِنْدَهُ فَيَتَوَسَّعَ بَلْ هَذَا التَّرْجِيحُ عِنْدَهُ كَتَرْجِيحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عِنْدَ الْمُفْتِي فَإِنَّهُ يَتْبَعُ ظَنَّهُ فِي التَّرْجِيحِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَإِنْ صَوَّبْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَلَكِنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَبِالْحُكْمِ قَبْلَ تَمَامِ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، وَالْغَلَطُ عَلَى الْأَعْلَمِ أَبْعَدُ لَا مَحَالَةَ

وَهَذَا التَّحْقِيقُ وَهُوَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سِرًّا فِي رَدِّ الْعِبَادِ إلَى ظُنُونِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا مُهْمَلِينَ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى مُسْتَرْسِلِينَ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُمَّهُمْ لِجَامُ التَّكْلِيفِ فَيَرُدَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ فَيَتَذَكَّرُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَنَفَاذَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ، فَمَا دُمْنَا نَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِهِمْ بِضَابِطٍ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَخْيِيرِهِمْ وَإِهْمَالِهِمْ كَالْبَهَائِمِ وَالصِّبْيَانِ، أَمَّا إذَا عَجَزْنَا عِنْدَ تَعَارُضِ مُفْتِيَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ دَلِيلَيْنِ فَذَلِكَ ضَرُورَةٌ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ يُصَوَّبُ فِيهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيهَا النَّظَرُ بَلْ يَتَخَيَّرُ فَيَفْعَلُ مَا شَاءَ، إذْ مَا مِنْ جَانِبٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ مُجْتَهِدٍ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا تَحْصِيلُ الظَّنِّ ثُمَّ يَتْبَعُ مَا ظَنَّهُ؛ فَكَذَلِكَ ظَنُّ الْعَامِّيِّ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ ظَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ طُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَالْعَامِّيُّ يَحْكُمُ بِالْوَهْمِ وَيَغْتَرُّ بِالظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُقَدِّمُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ فَلْيَنْظُرْ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ وَلْيَحْكُمْ بِمَا يَظُنُّهُ فَلِمَعْرِفَةِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ أَدِلَّةٌ غَامِضَةٌ لَيْسَ دَرْكُهَا مِنْ شَأْنِ الْعَوَامّ.

وَهَذَا سُؤَالٌ وَاقِعٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنْ مَرِضَ لَهُ طِفْلٌ وَهُوَ لَيْسَ بِطَبِيبٍ فَسَقَاهُ دَوَاءً بِرَأْيِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا مُقَصِّرًا ضَامِنًا، وَلَوْ رَاجَعَ طَبِيبًا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ طَبِيبَانِ فَاخْتَلَفَا فِي الدَّوَاءِ فَخَالَفَ الْأَفْضَلَ عُدَّ مُقَصِّرًا، وَيُعْلَمُ فَضْلُ الطَّبِيبَيْنِ بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَبِإِذْعَانِ الْمَفْضُولِ لَهُ وَبِتَقْدِيمِهِ بِأَمَارَاتٍ تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ يُعْلَمُ الْأَفْضَلُ بِالتَّسَامُعِ وَبِالْقَرَائِنِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ نَفْسِ الْعِلْمِ، وَالْعَامِّيُّ أَهْلٌ لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ الظَّنَّ بِالتَّشَهِّي. فَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَالْأَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ فِي ضَبْطِ الْخَلْقِ بِلِجَامِ التَّقْوَى وَالتَّكْلِيفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْفَنُّ الثَّالِثُ فِي التَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ]

[الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ]

الْفَنُّ الثَّالِثُ مِنْ الْقُطْبِ الرَّابِعِ

فِي التَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْفَنُّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ وَبَابَيْنِ

أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَفِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ.

فَنَقُولُ: يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَنْ يَرُدَّ نَظَرَهُ إلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ثُمَّ يَبْحَثَ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ فَيَنْظُرَ أَوَّلَ شَيْءٍ فِي الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعًا تَرَكَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

<<  <   >  >>