للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مِنْ هَذَا أَنَّ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَالْعِلْمُ بِطُرُقِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ

[بَيَانُ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْأُصُول وَنِسْبَتِهِ إلَى الْعُلُومِ]

بَيَانُ مَرْتَبَةِ هَذَا الْعِلْمِ وَنِسْبَتِهِ إلَى الْعُلُومِ

اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا. وَإِلَى دِينِيَّةٍ كَالْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ وَعِلْمِ التَّفْسِيرِ وَعِلْمِ الْبَاطِنِ، أَعْنِي عِلْمَ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرَهُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْلِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ يَنْقَسِمُ إلَى كُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ.

فَالْعِلْمُ الْكُلِّيُّ مَنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ هُوَ الْكَلَامُ وَسَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ عُلُومٌ جُزْئِيَّةٌ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي مَعْنَى الْكِتَابِ خَاصَّةً وَالْمُحَدِّثُ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي طَرِيقِ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَالْفَقِيهُ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَاصَّةً، وَالْأُصُولِيُّ لَا يَنْظُر إلَّا فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خَاصَّةً وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ، فَيَقْسِمُ الْمَوْجُودَ أَوَّلًا إلَى قَدِيمٍ حَادِثٍ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْمُحْدَثَ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْعَرَضَ إلَى مَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَإِلَى مَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا كَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالطَّعْمِ، وَيَقْسِمُ الْجَوْهَرَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ اخْتِلَافَهَا بِالْأَنْوَاعِ أَوْ بِالْأَعْرَاضِ.

ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْقَدِيمِ فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُتَكَثَّرُ وَلَا يَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْحَوَادِثِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنْ الْحَوَادِثِ بِأَوْصَافٍ تَجِبُ لَهُ وَبِأُمُورٍ تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَحْكَامٍ تَجُوزُ فِي حَقِّهِ وَلَا تَجِبُ وَلَا تَسْتَحِيلُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُحَالِ فِي حَقِّهِ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ فِعْلُهُ الْجَائِزُ، وَأَنَّهُ لِجَوَازِهِ افْتَقَرَ إلَى مُحْدِثٍ، وَأَنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْجَائِزَةِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى تَعْرِيفِ صِدْقِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَنَّ هَذَا الْجَائِزَ وَاقِعٌ. عِنْدَ هَذَا يَنْقَطِعُ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ وَيَنْتَهِي تَصَرُّفُ الْعَقْلِ، بَلْ الْعَقْلُ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ. ثُمَّ يَعْزِلُ نَفْسَهُ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْ النَّبِيِّ بِالْقَبُولِ مَا يَقُولُهُ فِي اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرَكِهِ وَلَا يَقْضِي أَيْضًا بِاسْتِحَالَتِهِ فَقَدْ يَرِدُ الشَّرْعُ بِمَا يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِإِدْرَاكِهِ إذْ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ كَوْنِ الطَّاعَةِ سَبَبًا لِلسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَكَوْنِ الْمَعَاصِي لِلشَّقَاوَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَتِهِ أَيْضًا، وَيَقْضِي بِوُجُوبِ صِدْقِ مَنْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ صَدَّقَ الْعَقْلُ بِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَهَذَا مَا يَحْوِيهِ عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا أَنَّهُ يَبْتَدِئُ نَظَرُهُ فِي أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَوْجُودُ، ثُمَّ يَنْزِلُ بِالتَّدْرِيجِ إلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيُثْبِتُ فِيهِ مَبَادِئَ سَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَيَأْخُذُ الْمُفَسِّرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَظَرَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ الْكِتَابُ فَيَنْظُرُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُحَدِّثُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ السُّنَّةُ فَيَنْظُرُ فِي طُرُقِ ثُبُوتِهَا، وَالْفَقِيهُ يَأْخُذُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَيَنْظُرُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ، وَيَأْخُذُ الْأُصُولِيُّ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ الَّذِي دَلَّ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى صِدْقِهِ فَيَنْظُرُ فِي وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ إمَّا بِمَلْفُوظِهِ أَوْ بِمَفْهُومِهِ أَوْ بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ وَمُسْتَنْبَطِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُ الْأُصُولِيِّ قَوْلَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِعْلَهُ.

فَإِنَّ الْكِتَابَ

<<  <   >  >>