للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالذِّكْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَسْمَى، وَرَأْسُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا وَالْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَى الْإِسْلَامِ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا أَرْكَانُهُ وَالشُّعْبَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ، بَلْ هِيَ الْكُلُّ وَلَيْسَ غَيْرَهُ {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: ١٠٨] (سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: الْآيَةُ ١٠٨) أَيِ الْوَحْيُ مَقْصُورٌ عَلَى التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهُ الْقَصْدُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْوَحْيِ، وَوَقَعَ غَيْرُهُ تَبَعًا وَلِذَا آثَرَهَا الْعَارِفُونَ عَلَى جَمِيعِ الْأَذْكَارِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْوِجْدَانِ وَالذَّوْقِ، قَالُوا: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ كَانَ أَفْضَلَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَلَوْ خُوطِبَ شُجَاعٌ بَاسِلٌ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ الْإِسْلَامِ فِي الْقِتَالِ لَقِيلَ لَهُ الْجِهَادُ، أَوْ غَنِيٌّ يَنْتَفِعُ الْفُقَرَاءُ بِمَالِهِ لَقِيلَ الصَّدَقَةُ، أَوِ الْقَادِرُ عَلَى الْحَجِّ لَقِيلَ لَهُ الْحَجُّ، أَوْ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ قِيلَ بَرَّهُمَا، وَبِهِ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الذِّكْرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ بِالشُّكْرِ وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَهَذَا لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَفَضْلُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَهُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا وَالْمَعَاصِي بِاجْتِنَابِهَا، وَذِكْرُ اللِّسَانِ وَاجِبٌ كَالْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ سَائِرُ الْأَذْكَارِ، فَالْوَاجِبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْبَرِّ، وَالْمَنْدُوبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَضَّلَ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ وَهُدَاهُ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ أَوْ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ، انْتَهَى.

وَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَيُعَارِضُهُ خَبَرُ: " «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ» " وَجَمَعَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ لِعُمُومِ الْخَلْقِ، وَالذِّكْرَ أَفْضُلُ لِلذَّاهِبِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى صُنُوفِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَمَا دَامَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ وَاسْتَوْلَى الذِّكْرُ عَلَى قَلْبِهِ فَمُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُجَاذِبُ خَاطِرَهُ وَيَسْرَحُ بِهِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَالذَّاهِبُ إِلَى اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَجْعَلُ هَمَّهُ هَمًّا وَاحِدًا وَذِكْرَهُ ذِكْرًا وَاحِدًا لِيُدْرِكَ دَرَجَةَ الْفَنَاءِ وَالِاسْتِغْرَاقِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: ٤٥] (سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: الْآيَةُ ٤٥) وَأَخَذَ ابْنُ الْحَاجِّ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الدُّنْيَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَخْذِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَأَيَّدَهُ بِمَا فِي الْقُوتِ عَنِ الْحَسَنِ: لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ رَفْضِ الدُّنْيَا، وَبِمَا فِي غَيْرِهِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الدُّنْيَا بِحَلَالِهَا فَأَصَابَهَا فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ وَقَدَّمَ فِيهَا نَفْسَهُ، وَتَرْكَ الْآخَرُ الدُّنْيَا. فَقَالَ: أَحَبُّهُمَا إِلَيَّ الَّذِي جَانَبَ الدُّنْيَا. (قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ) مَيْسَرَةُ (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةٌ (مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ وَالْقُرْآنِ، مَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ) وَفِي رِوَايَةٍ آدَمِيٌّ (مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>