للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لِآفَةٍ مِنَ الْآفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَالتَّقْلِيدِ، انْتَهَى. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ مُتَأَهِّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ كَمَا خَلَقَ أَعْيُنَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ قَابِلَةً لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ أَدْرَكَتِ الْحَقَّ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَعْلَمُ الدِّينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: ٧٨] (سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ ٧٨) وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِطْرَتَهُ مُقْتَضِيَةٌ لِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ، فَنَفْسُ الْفِطْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمَحَبَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ قَبُولِ الْفِطْرَةِ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَهْوِيدِ الْأَبَوَيْنِ مَثَلًا بِحَيْثُ يُخْرِجَانِ الْفِطْرَةَ عَنِ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ خُلِّيَ وَعَدِمَ الْمُعَارِضُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُلَائِمُ بَدَنَهُ مِنَ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْهُ الصَّارِفُ، وَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَتِ الْفِطْرَةُ بِاللَّبَنِ بَلْ كَانَتْ إِيَّاهُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، انْتَهَى. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا وُلِدَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلُ الْفِطْرَةَ بِالْعِلْمِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَأَبَوَاهُ إِلَى آخِرِهِ مَعْنًى لِفِعْلِهِمَا بِهِ مَا هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا فَيُنَافِي التَّمْثِيلَ بِحَالِ الْبَهِيمَةِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِنْكَارَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ قَالُوا جَمِيعًا بَلَى، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَطَوْعًا، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَكَرْهًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ إِلَّا عَنِ السُّدِّيِّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَقِيلَ: الْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ أَيْ يُولَدُ سَالِمًا لَا يَعْرِفُ كُفْرًا وَلَا إِيمَانًا ثُمَّ يَعْتَقِدُ إِذَا بَلَغَ التَّكْلِيفَ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: إِنَّهُ يُطَابِقُ التَّمْثِيلَ بِالْبَهِيمَةِ وَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عِيَاضٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حُنَفَاءَ أَيْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُقْتَصَرْ فِي أَحْوَالِ التَّبْدِيلِ عَلَى الْكُفْرِ دُونَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِشْهَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْآيَةِ مَعْنًى، وَقِيلَ اللَّامُ فِي الْفِطْرَةِ لِلْعَهْدِ أَيْ فِطْرَةِ أَبَوَيْهِ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِمَا ذُكِرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَمَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَادَّعَى فِيهِ النَّسْخَ فَقَالَ: هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ وَالْأَمْرُ بِالْجِهَادِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَأَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُولَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَوِّدَهُ أَبَوَاهُ مَثَلًا لَمْ يَرِثَاهُ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُمَا يَرِثَاهُ فَدَلَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ. وَرَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ حَادَ عَنِ الْجَوَابِ، وَفِي حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَكَذَا رَدَّهُ غَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَمْ يُرِدْ إِثْبَاتَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَيْسَا بِقَضَاءِ اللَّهِ بَلْ مِمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ إِحْدَاثَهُ، فَحَاوَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>