للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ: رَبِّ، أَبُونَا آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَأَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَرِنِيهِ، فَأَرَاهُ إِيَّاهُ (فَحَجَّ آدَمُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلٌ (مُوسَى) فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٌ، أَيْ: غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ (قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ) قَالَ الْبَاجِيُّ: أَيْ: عَرَّضْتَهُمْ لِلْإِغْوَاءِ لَمَّا كُنْتَ سَبَبَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: أَيْ: أَنْتَ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ لِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ (وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) دَارِ النَّعِيمِ وَالْخُلُودِ إِلَى دَارِ الْبُؤْسِ وَالْفَنَاءِ.

وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَرُدُّ قَوْلَ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّهَا غَيْرُهَا.

قَالَ الْأُبِّيُّ: كَأَنَّ مُوسَى جَوَّزَ الْوِلَادَةَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهَا مَشَقَّةٌ لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ مَشَقَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ قِيلَ فِي هَابِيلَ أَنَّهُ مِنْ حَمْلِ الْجَنَّةِ.

وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُولَدُ لَهُ الْوَلَدُ كَمَا يَشْتَهِي وَيَكُونُ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ وَشَبَابُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ " وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ ثُمَّ أُهْبِطَ النَّاسُ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الْأَرْضِ؟» " (فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ عِيَاضٌ: عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَيْ: مِمَّا عَلَّمَكَ وَيُحْتَمَلُ مِمَّا عَلَّمَهُ الْبَشَرَ (وَاصْطَفَاهُ) اخْتَارَهُ (عَلَى النَّاسِ) أَهْلِ زَمَانِهِ (بِرِسَالَتِهِ) بِالْإِفْرَادِ وَقُرِئَتِ الْآيَةُ بِهِ وَبِالْجَمْعِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلصَّحِيحَيْنِ: " اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ " وَفِي أُخْرَى: " اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ، فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ " (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ) بِشَدِّ الدَّالِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ (عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟) فَحَجَّهُ بِذَلِكَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ بَلْ كَانَ قَدَرًا مِنَ اللَّهِ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَهُ فِي عِلْمِهِ قَبْلَ كَوْنِي وَحَكَمَ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ تَغْفُلُ عَنِ الْعِلْمِ السَّابِقِ وَتَذْكُرُ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ وَتَنْسَى الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ سِرَّ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ؟ وَهَذِهِ الْمُحَاجَّةُ لَمْ تَكُنْ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالِاكْتِسَابِ وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ مُلْتَقَى الْأَرْوَاحِ، وَاللَّوْمُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا بَعْدَهَا فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلِذَا عَدَلَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ، فَالتَّائِبُ لَا يُلَامُ عَلَى مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>