للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الْحَظُّ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: لِفُلَانٍ جَدٌّ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: حَظٌّ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَعْطَاكُمُ اللَّهُ جَدًّا تُنْصَرُونَ بِهِ ... لَا جَدَّ إِلَّا صَغِيرٌ بَعْدَ مُحْتَقَرِ

وَهُوَ الَّذِي تَقُولُ الْعَامَّةُ: الْبَخْتُ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى مِنْهُ غِنَاهُ إِنَّمَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ: " «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْفُقَرَاءُ وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ» "، أَيْ: أَصْحَابُ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا مَحْبُوسُونَ يَوْمَئِذٍ.

قَالَ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: ٨٨ - ٨٩] [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: الْآيَةُ ٨٨، ٨٩] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: ٣٧] [سُورَةُ سَبَأٍ: الْآيَةُ ٣٧] وَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا، وَرُوِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: الِاجْتِهَادُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُ ذَا الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ اجْتِهَادُهُ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلَيْسَ يَرْزُقُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ انْتَهَى.

وَقَالَ الْحَافِظُ: الْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَمَعْنَاهُ الْغِنَى كَمَا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَوِ الْحَظُّ.

وَحَكَى الرَّاغِبُ أَنَّهُ أَبُو الْأَبِ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ أَحَدًا نَسَبُهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ مَعْنَاهُ ذَا الِاجْتِهَادِ اجْتِهَادُهُ وَأَنْكَرَهُ الطَّبَرِيُّ.

قَالَ الْقَزَّازُ: لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ نَافِعٌ لِدُعَاءِ اللَّهِ الْخَلْقَ إِلَيْهِ فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَتَضْيِيعُ الْآخِرَةِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ بِمُجَرَّدِهِ حَتَّى يُقَارِنَهُ الْقَبُولُ وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ السَّعْيُ التَّامُّ فِي الْحِرْصِ أَوِ الْإِسْرَاعُ فِي الْهَرَبِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَظُّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ أَوِ الْوَلَدِ أَوِ الْعَظْمَةِ أَوِ السُّلْطَانِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُنْجِيهِ حَظُّهُ مِنْكَ وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ انْتَهَى.

(مَنْ يُرِدِ اللَّهُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِرَادَةِ وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ (بِهِ خَيْرًا) أَيْ: جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ أَوْ خَيْرًا عَظِيمًا (يُفَقِّهْهُ) أَيْ: يَجْعَلُهُ فَقِيهًا (فِي الدِّينِ) وَالْفِقْهُ لُغَةً الْفَهْمُ، وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ هُنَا أَوْلَى مِنَ الِاصْطِلَاحِيِّ لِيَعُمَّ فَهْمَ كُلِّ عَامٍّ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَ " مَنْ " مَوْصُولٌ، فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهُ، وَنَكَّرَ " خَيْرًا " لِيُفِيدَ التَّعْمِيمَ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ كَهِيَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَوِ التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ ; وَلِذَا قُدِّرَ بِجَمِيعٍ أَوْ عَظِيمٍ.

(ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ) أَيْ: أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ، ظَاهِرُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>