للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- رأي الأستاذ فريد وجدي في مقتل عثمان:

نورد هنا ما كتبه الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف خاصَّاً بمقتل عثمان:

"إن الناظر في حادثة عثمان على ما أحاطها به المؤرخون من عبارات التضليل الباعث عليه ضعف النقد، يعدها أمراً جليلاً، وهي في حقيقتها أمر طبيعي، كانت نتيجتها لازمة لمقدمات سابقة. ونحن لا نود أن نقول بأن عثمان رضي اللَّه عنه استحق أن يقتل. ولكنا نقول: إنه استحق أن يعزل، ولكن الشكل الفذُّ الذي كانت عليه الحكومة إذ ذاك لم يسمح إلا بحدوث هذه النتيجة المحزنة المريعة.

عثمان استحق أن يعزل لجملة أسباب:

أولاً - لضياع هيبة الخلافة في عهده، فإنه كان يجترئ رجل مثل "جهجاه" على كسر العصا التي كان يتوكأ عليها، وهو على المنبر، فلم يقوَّ على معاقبته بما يستحق، أو بمؤاخذته بحيث لا يجترئ بمثلها.

وقد تبيَّن من تاريخ حياته أنه كان يصعد المنبر فيتوب مما فعل، ويستغفر اللَّه، ثم يعود سيرته الأولى من الخضوع لرأي فتية بني أمية. وفي توبته إقرار بأنه أخطأ، ثم في عودته دليل محسوس على خضوعه للمؤثرين عليه، وكفى بهذا مسقطاً لهيبة الخلافة، وهي الوظيفة التي كانت تعتبر تالية لمقام النبوة.

ثانياً - لوقوعه تحت تأثير قرابته، من أمثال عبد اللَّه بن أبي سرح، وعمرو بن العاص (١) ، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وهم إما من الطلقاء الذين مَنَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليهم بالعفو عند فتح مكة بعد أن كان تاريخهم في مكافحة الدعوة الإسلامية أقبح تاريخ. وإما من الفتيان الذين لا حريجة لهم في الدين، ولا صفة لهم بين المؤمنين ⦗١٩٨⦘.

ثالثاً - لحرمانه المجتمع الإسلامي من مكونيه الأولين أمثال علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بن عمر، وغيرهم من كبار الصحابة، واعتماده على فتيان بني أمية. فكان يرسل إلى الولايات الكبرى كمصر وسورية والعراقين والفرس من أولئك الفتية ممن لا يحسنون قيادة، ولا يعرفون سيادة. ويترك أمثال أولئك الكاملين عاطلين بلا عمل، وهم مكونو المجتمع الإسلامي وأرواحه التي أقامته من المجتمعات البشرية.

هذه الأمور الثلاثة وحدها كانت كافية لإهلاك المجتمع الإسلامي وحلِّ الوحدة الدينية، وهي وحدها كانت كافية لجمع المسلمين على خلع ذلك الخليفة، ولكن شكل تلك الحكومة لم يكن يسمح لهم بخلعه، فحدثت الحادثة التي انتهت بقتله.

كان عثمان يستطيع أن يتلافى الوقوع في شرِّ هذه الحوادث بتولية أمثال علي وطلحة والزبير الولايات الكبيرة. فإن هؤلاء النفر كان لهم من المقام الرفيع، والسوابق الجليلة، والحب في نفوس الناس ما كان يقيم الكافة على الطريق السوِّي، ويوجد للمجتمع الإسلامي روحه المدبر، ولكن عثمان كان تحت تأثير مثل عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح المطعون في دينه، ومروان بن الحكم المكروه من الناس وغيرهما من الغلمان والأحداث دون أولئك الصحابة الأكرمين الذين استعان بهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم نفسه في تكوين الأمة، واستعان بهم أبو بكر وعمر في تقويم معرج الشؤون. فكيف لا تنحرف عنه الأمة؟. وكيف لا تسقط مهابة الخلافة؟. وكيف لا يجترئ الناس عليه!.

إن قتل عثمان رضي اللَّه عنه على حسن سوابقه وفضله في إقامة الدين، وبذله نفسه وماله في مساعدة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، يعد من الأمور المريعة. ولكن الثائرين طلبوا إليه أن يخلع نفسه فأبى فحاصروه ليحملوه على ذلك فأصر على الإباء. فدخلوا عليه وهددوه بالقتل فلم يزدد إلا إباءً فاستهدف نفسه بذلك لما حدث.

هذا رأينا ولكن إخواننا المؤلفين الأولين كانوا يذهبون في تعظيم الأشخاص مذهباً لا يلائم نصَّ الدين نفسه، فاستنكروا حادثة عثمان استنكاراً لم يفعله معاصروه أنفسهم".


(١) يلاحظ أن عمرو بن العاص كان ناقماً على عثمان بعد أن عزله عن ولاية مصر سابقاً غير أن عثمان كان مع ذلك يستشيره.

<<  <   >  >>