للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال الأصمعي: قال الخليل بن سهل: يا أبا سعيد أعلمت أن طول رمح رستم كان سبعين ذراعاً من حديد مصمت في غلظ الراقود؟ قال: فقلت ها هنا أعرابي له معرفة فاذهب بنا إليه نحدثه بهذا. فذهبت به إلى الأعرابي فقال له ذلك فقال الأعرابي: قد سمعنا بهذا وقد بلغنا أن رستم هذا واسفنديار أتيا لقمان بن عاد بالبادية فوجداه نائماً ورأسه في حجر أمه فقالت لهما: ما شأنكما؟ فقالا: بلغنا شدة هذا الرجل فأتيناه، فانتبه فزعاً من كلامهما فنفخهما فألقاهما إلى أصفهان فقبورهما اليوم بها. فقال الخليل: قبحك الله ما أكذبك! فقال: يا ابن أخي ما بيننا شيء إلا وهو دون الراقود.

قيل: وقدم بعض العمال من عمل فدعا قوماً إلى طعامه وجعل يحدثهم بالكذب فقال بعضهم: نحن كما قال الله عز وجل: سمّاعون للكذب أكالون للسحت.

[وممن ذم الكذب]

قيل: إنه وجد في كتب الهند: ليس لكذوب مروءة ولا لضجور رياسة ولا لملول وفاء ولا لبخيل صديق.

وقال قتيبة بن مسلم لبنيه: لا تطلبوا الحوائج من كذوب فإنه يقرّبها وإن كانت بعيدة ويبعدها وإن كانت قريبة، ولا من رجل قد جعل المسألة مأكلة فإنه يقدم حاجته قبلها ويجعل حاجتك وقاية لها، ولا من أحمق فإنه يريد نفعك فيضرك.

وقيل: أمران لا ينفكان من كذب: كثرة المواعيد وشدة الاعتذار.

وقال: كفاك موبخاً على الكذب علمك بأنك كاذب.

وقال رجل لأبي حنيفة: ما كذبت قط. فقال: أما هذه فواحدة.

وفي المثل: هو أكذب من أسير السند، وذلك أنه يؤخذ الخسيس منهم فيزعم أنه ابن الملك. ويقال: هو أكذب من الشيخ الغريب، وذلك أنه يتزوج في الغربة وهو ابن سبعين سنة فيظن أنه ابن أربعين سنة. وقيل: هو أكذب من مسيلمة.

ومما قيل في ذلك من الشعر:

حسب الكذوب من البل ... ية بعض ما يحكى عليه

ما إن سمعت بكذبةٍ ... من غيره نسبت إليه

ولآخر:

لقد أخلفتني وحلفت حتى ... إخالك قد كذبت وإن صدقتا

ألا لا تحلفن على يمينٍ ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا

ولآخر:

كلام أبي خلفٍ كله ... نداء الفواخت جاء الرطب

وليس وإن كنّ يشبهنه ... يقاربنه أبداً في الكذب

ولآخر:

قد كنت أنجز دهراً ما وعدت إلى ... أن أتلف الوعد ما جمعت من نشب

فإن أكن صرت في وعدي أخا كذبٍ ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب

[محاسن فضل المنطق]

سئل بعض الحكماء عن المنطق والصمت فقال: إنك تمدح الصمت بالمنطق ولا تمدح المنطق بالصمت وما عبّر عن شيء فهو أفضل منه.

وسئل آخر عنها فقال: أخزى الله المساكنة فما أفسدها للسان وأجلبها للعيّ والحصر، والله للمماراة في استخراج حق أسرع في هدم العيّ من النار في يابس العرفج. فقيل له: قد عرفت ما في المماراة من الذم. فقال: إن ما فيها أقل ضرراً من السكتة التي تورث عللاً وتولد أدواء أيسرها العيّ.

وقال بعض الحكماء: اللسان عضوٌ فإن مرنته مرن وإن تركته حزن.

[محاسن الصمت]

الهيثم بن عدي قال بعض الحكماء: تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات رميت عن قوس واحدة فقال كسرى: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على رد ما قد قلت. وقال ملك الهند: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإن كنت أملكها. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل وقد أندم على ما قد قلت. وقال ملك الصين: عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول.

وقال بعضهم: من حصافة الإنسان أن يكون الاستماع أحب إليه من المنطق إذا وجد من يكفيه، فإنه لن يعدم في الاستماع والصمت سلامة وزيادة في العلم.

وقال بعض الحكماء: من قدر أن يقول فيحسن قادر أن يصمت فيحسن، وليس كل من صمت فأحسن قادر أن يقول فيحسن.

وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام.

وكان يقال: من سكت فسلم كان كمن قال فغنم.

وقال علي بن عبيدة: الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق وسلامة من فضول القول.

وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الله جل وعز يكره الانبعاق في الكلام، فرحم الله امرأً أوجز في كلامه واقتصر على حاجته.

<<  <   >  >>