للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما إسلام عثمان فإنه روي أن عثمان بن عفان، رحمه الله، قال: دخلت على جدتي بنت عبد المطلب أعودها فإني لعندها إذ جاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعودها فجعلت أنظر إليه وقد نشر من شأنه حينئذ شيئاً، فأقبل علي فقال: ما شأنك يا عثمان؟ فجعل لي إلى الكلام سبيلاً، فقلت: أعجب منك ومن مكانك فينا وفي قومك وما يقال عليك، فقال: لا إله إلا الله، فالله يعلم أني اقشعررت. ثم قال: " وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون "، فقام فقمت في أثره، عليه السلام، فأسلمت.

[مساوئ من ارتد عن الإسلام]

منهم جبلة بن الأيهم الغساني، لما افتتحت الشام ونظر جبلة إلى هدي المسلمين ووقارهم أحب الدخول في الإسلام فسار نحو المدينة إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله، فلما بلغ عمر قدومه قال للمهاجرين: استقبلوه وأظهروا تعظيمه وتبجيله فإنه قريب العهد بالملك. فاستقبله الناس وأظهروا بره، وأقبل جبلة حتى دخل على عمر، رضي الله عنه، فقرب مجلسه وأدناه ووعده من نفسه خيراً، فأسلم وأقام بالمدينة حتى إذا حضر أوان الموسم حج عمر، رحمه الله، وخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت محرماً وعليه إزاران قد تردى بواحد واتّزر بالآخر إذ وطيء رجل طرف إزاره فانحلّ عنه حتى بدت عورته، فغضب ووثب على الرجل فلطمه، فتعلق به الرجل وجماعة معه وانطلقوا به إلى عمر، رضي الله عنه، وشهدوا عليه. فقال عمر: أقِدِ الرجل أو استوهبه منه. فقال جبلة: وكذلك هذا الدين لا يفضل فيه شريف على وضيع ولا ملك على سوقة؟ قال عمر: قال الله تعالى، وقوله الحق: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم "، إن الناس شريفهم ووضيعهم في الحق سواء. فانصرف جبلة، فلما جنّ عليه الليل خرج في حشمه وعياله حتى لحقوا بأرض الشام مرتداً عن الإسلام، فكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح فأمره أن يستتيب جبلة فإن تاب وإلا ضرب عنقه، وبلغ ذلك جبلة فخرج من أرض الشام حتى دخل أرض الروم وأتى الملك فأخبره بأمره ورجوعه إلى النصرانية، فسرّ الملك بقدومه واستخلفه على ملكه وجعله جائز الأمر في سلطانه، فأقام عنده، فلما ولي معاوية بن أبي سفيان بعث رجلاً من الأنصار يقال له تميم بن بشر إلى قيصر ملك الروم في بعض أموره، قال تميم: فلما دخلت على قيصر أبلغته الرسالة وجلست عنده فحدثني مليّاً ثم قال: هل لك في لقاء رجل من العرب من أهل بيت الملك؟ فقلت: ومن هو؟ قال: جبلة بن الأيهم. قلت: إن لي في ذلك أملاً وإني لرجل من قومه، فبعث معي رجلاً حتى أدخلني عليه وهو في مجلس له يغشى العيون حسنه وكثرة تصاويره، مطلية حيطانه بماء الذهب والفضة، يتلألأ تلألؤاً وحوله نفر من بطارقة الروم، فسألني من أنا، فانتسبت له، فقال: حياك الله فإننا بنو عم. ثم أمر جلساءه فخرجوا من عنده وخلا بي يسألني عن العرب وأماكنها، فخبرته بجميع ما سألني عنه، فبكى حتى اخضلت لحيتَه الدموعُ ثم أنشأ يقول:

تنصرت بعد الدين من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضررْ

تكنّفني منها لجاجٌ ونخوةٌ ... فبعت بها العين الصحيحة بالعوَرْ

ويا ليت أمي لم تلدني وليتني ... ثويتُ أسيراً في ربيعة أو مضر

ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ ... ولم أنكر القول الذي قاله عمر

ويا ليت لي بالشأم أدنى معيشةٍ ... أجالس قومي في العشيات والبكر

أدين لما دانوا به من شريعةٍ ... وقد يجلس العير الضجور على الدبُر

قال: ثم دعا بغدائه فتغدينا، فلما فرغنا خرجت علينا جاريتان في يد إحداهما بربطٌ وفي يد الأخرى مزمار فجلستا، ثم خرجت علينا جاريتان في يد إحداهما جام فيه مسك مسحوق وفي يد الأخرى جام مملوء ماء ورد، ثم أقبل طائران كانا شبيهين بطاؤوسين أو تدرُجين فسقطا في الجام واحتملا المسك بجناحيهما فرشاه علينا، وقال جبلة للمغنيتين: غنيانا، فغنتاه:

لمن الدار أقفرت بمُعان ... بين أعلى اليرموك فالمسربان

ذاك مغنىً لآل جفنة في الده ... ر وحق ٌ تصرف الأزمان

قد أراني هناك حقاً مكيناً ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني

قال: ثم بكى حتى اخضلت دموعه لحيته، ثم قال: غنياني، فغنتاه:

<<  <   >  >>