للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإني وقيساً كالمسمن كلبه ... فخدّشه أنيابه وأظافره

[محاسن الدهاء والحيل]

ذكروا أنه لم يكن في ملوك العجم أدهى من كسرى أنوشروان، وأن الخزر كانت تغير في سلطان فارس حتى تبلغ همذان والموصل، فلما ملك أنوشروان كتب إلى ملكهم فخطب ابنته على أن يزوجه أيضاً ابنته ويتوادعا ويتفرغا إلى سائر أعدائهما، فأجابه إلى ذلك، وعمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فزفّها إلى صاحب الخزر وأهدى معها ما يشبه أن يهدى مع بنات الملوك وزفّ صاحب الخزر إلى أنوشروان ابنته، فلما وصلت إليه قال لوزرائه: اكتبوا إلى صاحب الخزر لو التقينا وأكدنا المودة بيننا، فأجابه إلى ذلك ووعده موضع الدرب، فالتقيا فكانا يخلوان في لذاتهما، ثم إن أنوشروان أمر قائداً من قواده أن يختار ثلاثمائة رجل من أشد أصحابه فإذا هدأت العيون أغار في ناحية من عسكر الخزر، ففعل ذلك، فلما أصبح بعث إليه صاحب الخزر: ما هذا ينهب عسكري البارحة؟ فأنكر ذلك وقال: لم تؤت من قبلي. فأمهله أياماً ثم عاد إلى مثلها، ففعل ذلك ثلاث مرات في كل ذلك يعتذر إليه أنوشروان ويسأله البحث فيبحث فلا يقف على شيء، فلما طال ذلك دعا صاحب الخزر بقائد من قواده وأمره بمثل ذلك، فلما أصبح بعث إليه أنوشروان: ما هذا أتستبيح عسكري البارحة؟ فأرسل إليه: ما أسرع ما ضجرت، قد فعل هذا بعسكري ثلاث مرات وإنما فُعل بك مرة واحدة! فبعث إليه أنوشروان: إن هذا عمل قوم يريدون أن يفسدوا بيننا وعندي رأي إن قبلته. فقال: وما هو؟ قال: تدعني أبني حائطاً بيني وبينك وأجعل عليه باباً فلا يدخل عليك إلا من تحب ولا يدخل عليّ إلا من أحب. فأجابه إلى ذلك وتحمّل ومضى، وأقام أنوشروان فأمر، فبني بالصخر والرصاص حائط عرضه ثلاثمائة ذراع حتى ألحقه برؤوس الجبال وجعل عليه أبواب حديد فكان يحرسه مائة رجل بعد أن كان يحتاج إلى خمسة آلاف رجل، فلما فرغ من السد وقُيّد الفند في البحر وأحكم الأمر سرّ سروراً شديداً فأمر أن ينصب على الفند سريره ويفرش له عليه، ثم قام فرقى إليه وأغفى عليه، فطلع طالع من البحر سد الأفق بطوله وأهوى نحو الفند، فثار الأساورة إلى قسيهم، فانتبه الملك فقال: ما شأنكم؟ أمسكوا، لم يكن الله جل وعز ليلهمني الشخوص عن وطني اثنتي عشرة سنة فأسد ثغراً يكون عزاً لرعيتنا وردءاً ومرتقى لعباده ثم يسلط عليّ دابة من دواب البحر. فتنحى الأساورة وأقبل الطالع نحو الفند، فذكر الموبذ أن الله جل وعز أنطق ذلك الحيوان فقال: أيها الملك أنا ساكن من سكان هذا البحر وقد رأيت هذا الفند مشدوداً سبع مرات وخراباً سبع مرات، وأوحى الله جل وعز إلينا معشر سكان هذا البحر أن ملكاً عصره عصرك وصورته صورتك يبعثه الله جل وعز يسد هذا الثغر إلى الأبد، وأنت ذلك الملك، فأحسن الله على البر معونتك.

ثم غاب عن بصره كأنما غاب في البحر أو طار في الجو، وسأل أنوشروان عند فراغه من ذلك السد من ذلك البحر، فقيل: هو ثلاثمائة فرسخ في مثلها وبينه وبين بيضاء الخزر مسيرة أربعة أشهر على هذا الساحل ومن بيضاء الخزر إلى الفند الذي بناه أسفندياذ مسيرة شهرين. فقال أنوشروان: لا بد من الوقوف عليه والنظر إليه. قالوا: أيها الملك إنه طريق لا يطمع في سلوكه لموضع فيه يقال له دهان شير، يريد فم الأسد، وفيه دردور لا يكاد تسلم فيه سفينة. قال أنوشروان: لا بد من ركوب هذا البحر والنظر إلى هذا السد.

<<  <   >  >>