للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: وكان القاسم بن الرشيد ساقط الهمة دني النفس، وكان المأمون على أن يعهد إليه ويؤكد له ما كان الرشيد جعله له من ولاية العهد، وكان لا يزال يبلغه عنه ما يكره مرة في نفسه وأخرى في حشمه، قال: فرفع إليه في الخبر يوماً أنه قال لقوّام حمّامه: نوّروا الناس بالمجان، ففعلوا ذلك فلم يبقَ محتاج إلا جاء يتنوّر، فلما علم أنهم كثروا أخرج عليهم الأسد من باب كان يدخل منه إلى الحمّام فخرج الناس عراةً مغمىً عليهم مع ما عليهم من النّورة هاربين من الأسد فصاروا إلى شارع قصره وقد أشرف عليهم وهو يضحك، فحدّثنا الحسن بن قريش قال: دعاني المأمون وقال: يا هذا ما لي ولهذا الفتى، إلى كم أحتمل منه هذا الأذى؟ قال: فقلت قوّمه يا أمير المؤمنين إن رأيت في ذلك صلاحاً، قال: نعم، فقلت: يا سيدي إنه عضوٌ منك وأنت أولى الناس بتقويمه، قال: فجعل ينهاه ويأبى لا ينتهين، فلما كثر هذا من فعله عزم على خلعه فكتب إلى هرثمة بن أعين في ذلك كتاباً نُسخته: أما بعد فإن أمير المؤمنين يستوفق الله جل وعز في جميع أموره ويستخيره فيها خاصّها وعامّها، لطيفها وجليلها، استخارة من يوقن أن البركة وخيرة البدء والعاقبة في قضائه وما يلهمه من إرشاد وتسديد رأي وإثبات صواب، وقد رأى أمير المؤمنين عندما استخار الله تبارك اسمه فيه من أمر القاسم بن الرشيد فيما كان إليه من ولاية العهد خلعه عن ذلك وصرفه عنه، فأظهر ذلك فيمن بحضرتك وأمُرْ بالكتاب إلى العمّال في نواحي عملك وثغورك وولاة الأمصار، فقد أمل أمير المؤمنين أن يكون ذلك توفيقاً من الله تبارك اسمه ورشداً ألهمه إياه إذ كان به توفيقه وعليه معوّله وإليه رجوعه فيما يبرم ويمضي، فامتثل ما حدّه لك أمير المؤمنين وانته إليه واكتب بما يكون منك فيه إن شاء الله.

قال: ونظر المأمون يوماً إلى ابنه العباس وأخيه المعتصم، فابنه العباس يتّخذ المصانع ويبني الضياع والمعتصم يتّخذ الرجال، فقال شعراً:

يبني الرجال وغيره يبني القرى ... شتان بين قرىً وبين رجال

قلقٌ بكثرة ماله وضياعه ... حتى يفرّقه على الأبطال

وأنشد في مثله:

لما رأيتك لا تجود بنائلٍ ... وتظنّ بالمعروف ظنَّ الساقط

ورأيت همّتك التي تعلو بها ... سوط الثريد وشمَّ ريح الغائط

وإذا تكلّف حاجةً ضيّعتها ... بتغافلٍ عنها كأنك واسطي

لا للمكارم تشرئبّ بنهضةٍ ... ولدى المكاره كالحمار الضارط

أيّست نفسي من رجائك دهرها ... ونقشت شبهك صورة في حائط

وقال آخر، سامحه الله عز وجل:

إذا أنت لا تُرجي لدفع ملمةٍ ... ولا أنت في المعروف عندك مطمه

ولا أنت ذو جاهٍ يعاش بجاهه ... ولا أنت يوم الحشر ممن يشفّع

فموتك في الدنيا وعيشك واحدٌ ... وعود خلالٍ من نوالك أنفع

ولآخر، سامحه الله وعفا عنه:

كلما قلت ويك للكلب إخسأ ... لحظتني عيناك لحظة تهمه

أتراني أظنّ أنك كلبٌ ... أنت عندي من أبعد الناس همّه

محاسن كرم الصحبة

<<  <   >  >>