للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ وَفِي رِوَايَةٍ أَقْطَعُ وَفِي رِوَايَةٍ أَجْذَمُ بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.

وَهُوَ مِنْ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي الْعَيْبِ الْمُنَفِّرِ وَمَعْنَى الْجَمِيعِ أَنَّهُ نَاقِصٌ غَيْرُ تَامٍّ وَإِنْ تَمَّ حِسًّا وَمَعْنَى ذِي بَالٍ أَيْ ذِي حَالٍ يُهْتَمُّ بِهِ وَرَأَيْت بِخَطِّ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ الْمَحَلِّيِّ أَنَّ صَاحِبَ الِاسْتِغْنَا فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى حَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ التُّونُسِيِّ قَالَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ كُلِّ مِلَّةٍ أَنَّ اللَّهَ افْتَتَحَ كُلَّ كِتَابٍ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَدْ اسْتَقَرَّ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى افْتِتَاحِ كُتُبِ الْعِلْمِ بِالتَّسْمِيَةِ وَكَذَا مُعْظَمُ كُتُبِ الرَّسَائِلِ وَاخْتَلَفَ الْقُدَمَاءُ فِيمَا إذَا كَانَ الْكِتَابُ كُلُّهُ شِعْرًا هَلْ يُبْتَدَأُ بِالتَّسْمِيَةِ فَجَاءَ عَنْ الشَّعْبِيِّ مَنْعُ ذَلِكَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ فِي الشِّعْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ جَوَازُ ذَلِكَ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ الْمُخْتَارُ انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.

(قُلْت) وَهَذَا فِي غَيْرِ الشِّعْرِ الْمُحْتَوِي عَلَى عِلْمٍ أَوْ وَعْظٍ فَهَذَا لَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ وَفِي غَيْرِ الشِّعْرِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لَا تُشَرَّعُ فِي الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ. وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُصَنِّفُ، وَكَذَا يُضْمَرُ كُلُّ فَاعِلٍ مَا جُعِلَتْ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ فَيُضْمِرُ الْمُسَافِرُ أُسَافِرُ، وَالْآكِلُ آكُلُ لِيُفِيدَ تَلَبُّسَ الْفِعْلِ جَمِيعِهِ بِالتَّسْمِيَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ أَبْدَأُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا تَلَبُّسَ ابْتِدَائِهِ فَقَطْ وَتَقْدِيرُ الْمُتَعَلِّقِ مُتَأَخِّرًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ الْبُدَاءَةُ بِاسْمِهِ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِي ابْتِدَائِهِمْ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِخِلَافِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْقِرَاءَةُ وَالِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ الْعُلُوُّ؛ لِأَنَّهُ رِفْعَةٌ لِلْمُسَمَّى، وَمِنْ السِّمَةِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَهِيَ الْعَلَامَةُ.

وَإِضَافَتُهُ لِلْجَلَالَةِ مِنْ إضَافَةِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ لِيُفِيدَ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَحُذِفَتْ أَلِفُهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِذَا لَمْ تُحْذَفْ مِنْ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] وَغَيْرِهِ وَطُوِّلَتْ أَلْفًا عِوَضًا عَنْهَا وَالْجَلَالَةُ عَلَمٌ عَلَى ذَاتِهِ تَعَالَى وَهُوَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَحَكَى ابْنُ جِنِّي أَنَّ سِيبَوَيْهِ رُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ فَقَالَ: خَيْرًا، وَذَكَرَ كَرَامَةً عَظِيمَةً، فَقِيلَ لَهُ: بِمَ؟ فَقَالَ: لِقَوْلِي: إنَّ اسْمَ اللَّهِ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كُلِّهَا وَمَا سِوَاهُ خَاصٌّ بِمَعْنًى فَلِذَا يُضَافُ اللَّهُ لِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ، فَيُقَالُ: الرَّحْمَنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا الْبَاقِي وَلَا يُضَافُ هُوَ إلَى شَيْءٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَبِهِ وَقَعَ الْإِعْجَازُ حَيْثُ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِهِ وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَيْ مَرَّةٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَرَّةً وَقِيلَ: أَلْفَيْ مَرَّةٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ أَوْ مُرْتَجَلٌ؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ إذَا تَحَيَّرَ؛ لِأَنَّ الْعُقُولَ تَتَحَيَّرُ فِي عَظَمَتِهِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ صِفَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ رَحِمَ بِالْكَسْرِ بَعْدَ نَقْلِهِ إلَى فَعُلَ بِالضَّمِّ أَوْ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ قَالَ الْهَمْدَانِيُّ فِي إعْرَابِ الْقُرْآنِ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَبَنُو أَسَدٍ يَقُولُونَ: رَحِيمٌ وَرَغِيفٌ وَبَعِيرٌ بِفَتْحِ أَوَائِلِهِنَّ، وَقَيْسٌ وَرَبِيعَةُ وَتَمِيمٌ يَقُولُونَ: رَحِيمٌ وَرَغِيفٌ وَبَعِيرٌ بِكَسْرِ أَوَائِلِهِنَّ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ فَقِيلَ: هِيَ رِقَّةٌ وَانْعِطَافٌ تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِحْسَانَ، وَمِنْهُ الرَّحِمُ لِانْعِطَافِهَا عَلَى مَا فِيهَا فَهِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ مَجَازٌ عَنْ الْإِنْعَامِ.

قَالَ الرَّازِيّ: إذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرٍ وَلَمْ يَصِحَّ وَصْفُهُ بِمَعْنَاهُ يُحْمَلُ عَلَى غَايَةِ ذَلِكَ. وَهِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ إرَادَةُ الْخَيْرِ فَوَصْفُهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَقِيقَةٌ وَهِيَ حِينَئِذٍ صِفَةُ ذَاتٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَنْقُولٌ وَذَكَرَ السَّمِينُ فِي إعْرَابِهِ الْقَوْلَيْنِ وَقَالَ الظَّاهِرُ الثَّانِي وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى الْأَوَّلِ وَرَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَلِيٍّ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيلٍ السَّكُونِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّمْيِيزِ لِمَا أَوْدَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ الِاعْتِزَالِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ

<<  <  ج: ص:  >  >>