للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَفَى بِهِ حَجَّةً، وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: آكِلُ الْحَرَامِ مَطْرُودٌ مَحْرُومٌ لَا يُوَفَّقُ لِعِبَادَةٍ وَإِنْ اتَّفَقَ لَهُ فِعْلُ خَيْرٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرِبَ جَرْعَةً مِنْ لَبَنٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ اسْتِقَاءَهَا فَأَجْهَدَهُ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: أَكُلُّ ذَلِكَ فِي شَرْبَةِ لَبَنٍ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلَّا بِنَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» .

((قُلْتُ)) : وَإِذَا كَانَتْ الْحَالُ هَذِهِ فَسَبِيلُ الْمَرْءِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَيُحَافَظَ عَلَى شُرُوطِ قَبُولِ عِبَادَتِهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ إعْمَالَ الْجَوَارِحِ فِي الطَّاعَاتِ مَعَ إهْمَالِ شُرُوطِهَا ضَحْكَةٌ لِلشَّيْطَانِ لِكَثْرَةِ التَّعَبِ وَعَدَمِ النَّفْعِ، وَقَدْ رُوِيَ «مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ حِلٍّ فَقَالَ: لَبَّيْكَ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ» انْتَهَى، وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، قَالَ: رُوِيَ عَنْ سَيِّدِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَجَّ الرَّجُلُ بِالْمَالِ الْحَرَامِ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْك وَفِي رِوَايَةٍ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْك وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ خَرَجَ يَؤُمُّ هَذَا الْبَيْتَ بِكَسْبٍ حَرَامٍ شَخَصَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَإِذَا بَعَثَ رَاحِلَتَهُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ كَسْبُك حَرَامٌ وَرَاحِلَتُك حَرَامٌ وَثِيَابُك حَرَامٌ وَزَادُك حَرَامٌ ارْجِعْ مَأْزُورًا غَيْرَ مَأْجُورٍ وَأَبْشِرْ بِمَا يَسُوءُك، وَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بِمَالٍ حَلَالٍ وَبَعَثَ رَاحِلَتَهُ، وَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ أَجَبْت بِمَا تُحِبُّ رَاحِلَتُك حَلَالٌ وَثِيَابُك حَلَالٌ وَزَادُك حَلَالٌ ارْجِعْ مَبْرُورًا غَيْرَ مَأْزُورٍ وَاسْتَأْنِفْ الْعَمَلَ» ، أَخْرَجَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأَخِيرَةَ أَبُو ذَرٍّ وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «رَدُّ دَانِقٍ مِنْ حَرَامٍ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعِينَ حَجَّةً» وَأَنْشَدُوا

إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتُ ... فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ

لَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا كُلَّ طَيِّبَةٍ ... مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَبْرُورُ

، وَقِيلَ: إنَّ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقِيلَ: إنَّهُمَا لِغَيْرِهِ وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَرْسَلَ إلَى نَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِي مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا: كُنْتَ تُعْطِي السَّائِلَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَحَفَرْت الْآبَارَ فِي الْفَلَوَاتِ لِابْنِ السَّبِيلِ وَبَنَيْت الْحَوْضَ بِعَرَفَاتٍ فَمَا نَشُكُّ فِي نَجَاتِك وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ سَاكِتٌ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إذَا طَابَتْ الْمُكْسِبَةُ زَكَتْ النَّفَقَةُ وَسَتَرِدُ فَتَعْلَمُ انْتَهَى مِنْ الْبَابِ الثَّانِي، وَقَالَ فِيهِ: وَمَا أَغْبَنَ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ عَلَى صُورَةِ قَصْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَصْدُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَبُوءُ بِالْحِرْمَانِ وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ انْتَهَى.

وَالرِّوَايَتَانِ الْأُولَيَانِ أَخْرَجَهُمَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ فِي مُثِيرِ الْغَرَامِ إلَى زِيَارَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قَالَ وَلَكِنْ بِلَفْظِ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَبِلَفْظِ هَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْك فِي الثَّانِيَةِ وَقَوْلُهُ: يَؤُمُّ أَيْ يَقْصِدُ، وَقَوْلُهُ: شَخَصَ شُخُوصُ الْمُسَافِرِ خُرُوجُهُ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَالسُّحْتُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِهَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْحَرَامُ وَمَا خَبُثَ مِنْ الْمَكَاسِبِ وَقَدْ نَظَمَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ رُشَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي فِي الْمَنَاسِكِ الْمُسَمَّاةِ بِالذَّهَبِيَّةِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ:

وَحُجَّ بِمَالٍ مِنْ حَلَالٍ عَرَفْتَهُ ... وَإِيَّاكَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ وَإِيَّاهُ

فَمَنْ كَانَ بِالْمَالِ الْمُحَرَّمِ حَجُّهُ ... فَعَنْ حَجِّهِ وَاَللَّهِ مَا كَانَ أَغْنَاهُ

إذَا هُوَ لَبَّى اللَّهَ كَانَ جَوَابُهُ ... مِنْ اللَّهِ لَا لَبَّيْكَ حَجٌّ رَدَدْنَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>