للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَإِذَا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ صَارَ فِعْلًا مَكْرُوهًا لِتَقَحُّمِ الْغَرَرِ فِيهِ فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْجِهَادَ الَّذِي لَا تُحْصَى فَضَائِلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْآثَارِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَإِنَّ ذَلِكَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ وَمَوْضِعُ السُّؤَالِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ وَالسَّبِيلُ مَأْمُونَةٌ هَلْ الْحَجُّ أَفْضَلُ أَمْ الْجِهَادُ؟

وَاَلَّذِي أَقُولُ بِهِ: إنَّ الْجِهَادَ لَهُ أَفْضَلُ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَحُجَّ الْفَرِيضَةَ وَالسَّبِيلُ مَأْمُونَةٌ فَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَجِّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي وَهَذَا إذَا سَقَطَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَنْ الْأَعْيَانِ لِقِيَامِ مَنْ قَامَ بِهِ وَأَمَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِيهِ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْفَرِيضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْعَدْوَةِ هَلْ هُمْ كَأَهْلِ الْأَنْدَلُسِ؟ فَقَالَ: سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ إذَا كَانُوا لَا يَصِلُونَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِخَوْفٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَالْجِهَادُ لَهُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ تَعْجِيلِ الْحَجِّ إذْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ عَدَا مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْجِهَادِ وَأَمَّا مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ حُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْنَادِهِمْ فَالْجِهَادُ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ تَعْجِيلُ الْحَجِّ مِنْهُمْ إلَّا عَلَى مَنْ بَلَغَ الْمُعْتَرَكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى التَّرَاخِي لَهُ حَالَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ وَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُعْتَرَكُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ» انْتَهَى.

وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مُخْتَصَرًا فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَقَالَ: قُلْت فِي قَوْلِهِ نَفْلًا مَكْرُوهًا نَظَرٌ لِأَنَّ النَّفَلَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَنْدُوبِ وَهُوَ وَالْمَكْرُوهُ ضِدَّانِ وَالشَّيْءُ لَا يُجَامِعُ الْأَخَصَّ مِنْ ضِدِّهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْلًا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ مَكْرُوهًا بِاعْتِبَارِ عَارِضِهِ كَقِسْمِ الْمَكْرُوهِ مِنْ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ مُطْلَقَ النِّكَاحِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ مَكْرُوهًا نَظَرٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعٌ لَا مَكْرُوهٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَدَّى فَرْضَهُ فَجِهَادُهُ أَفْضَلُ.

(قُلْت) : هُوَ نَقْلُ الشَّيْخِ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ انْتَهَى، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ فَرْضَهُ يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي فَوْرِ الْحَجِّ وَتَرَاخِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ الَّتِي أَفْتَى بِهَا لَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعَيَّنَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْفَرِيضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بَلْ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ الْجِهَادُ وَتَرْكُ الْحَجِّ ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَقَوْلُهُ: وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ عَدَا مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْجِهَادِ إلَخْ كَأَنَّهُ تَأَكَّدَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِمْ عُيِّنُوا لَهُ فَصَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ تَقَدُّمِ الْحَجِّ وَقَوْلُهُ إلَّا مَنْ بَلَغَ الْمُعْتَرَكَ أَيْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلْحَجِّ وَتَرْكُ الْجِهَادِ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَمِنْ أَنَّ تَطَوُّعَ الْجِهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَكَلَامُهُ هُنَا يُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَتْ الْفُتْيَا بِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ فِي سُلْطَانٍ يَخَافُ إذَا حَجَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِهِ وَيَخَافُ أَنْ يَفْسُدَ أَمْرُ الرَّعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ لَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْجِهَادِ أَوْلَى وَخُرُوجُهُ لِلْحَجِّ مَكْرُوهٌ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ وَمَنْ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَإِنْ وَجَبَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ قُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ

وَقَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ الْفَرْضِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ الَّذِي لَا يَجِبُ سِوَاهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَلَا يَخْلُو الشَّخْصُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ أَوْ لَا فَمَنْ حَجَّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةِ خَوْفٍ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ خَوْفٍ فَالْجِهَادُ أَوْلَى اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَنَةَ خَوْفِ فَالْحَجُّ أَوْلَى عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْجِهَادُ أَوْلَى عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ رُشْدٍ وَفَتْوَى ابْنِ وَهْبٍ وَهَذَا وَاَللَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>