للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ يُنْكِرُونَهَا فِي الْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ وَيَرُدُّونَهَا عَلَى مُخْتَرِعِهَا الْقَادِمِ مِنْهُمْ وَالْمُقِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ كَلَامِ ابْنِ الْحُبَابِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَكَلَامِ الْغَسَّانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ كَفَانَا هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيمَا نَقَلَهُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ كِفَايَةٌ، قَالَ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ عَالِمِ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَفَضِيلَتِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَرَفَةَ فِي حَجَّتِهِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى اجْتِمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَبَشَاعَةُ ذَلِكَ وَشَنَاعَتُهُ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ أُلْهِمَ رُشْدَهُ وَلَمْ تَمِلْ بِهِ عَصَبِيَّةٌ.

وَدَلَائِلُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمَوْسِمِ عَلَى الْمُصَلِّينَ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ لِلِاشْتِبَاهِ، وَجَمِيعُ الْبِلَادِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ الرَّاتِبُ الْأَوَّلُ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَدِمَشْقَ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي يَجِبُ إنْكَارُهَا وَالسَّعْيُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي خَفْضِ مَنَارِهَا وَإِزَالَةِ شِعَارِهَا وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ، وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى إزَالَةِ هَذَا الْمُنْكَرِ وَيَنَالُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ وَيُؤْجَرُ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ فِي ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْوَافِرُ وَالْخَيْرُ الْعَظِيمُ الْمُتَكَاثِرُ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كَأَرْبَعَةِ مَسَاجِدَ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ سَخِيفٌ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُتَعَرَّضَ لَهُ بِرَدٍّ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَحْسُوسَ وَالْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ الْمُتَكَاثِرَةَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْتَهَى.

(قُلْت) وَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ إذْ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمَذْكُورَ مُنَاقِضٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ تَعُودَ بَرَكَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَلَمْ يَسْمَحْ الشَّارِعُ بِتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَيْنِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ حُضُورُ الْقِتَالِ مَعَ عَدُوِّ الدِّينِ بَلْ أَمَرَ بِقَسْمِ الْجَمَاعَةِ وَصَلَاتِهِمْ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - رَسُولَهُ بِهَدْمِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لَمَّا اُتُّخِذَ لِتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِعْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ يُشْبِهُ فِعْلَ مَسْجِدِ أَهْلِ الضِّرَارِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا مَا كَانَ يُفْعَلُ فِي الْمَغْرِبِ فَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي حُرْمَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ نَرَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أَدْرَكْنَاهُ اجْتِمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَفِيُّ، وَكَانَ سَيِّدِي الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُنْكِرُ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَأَجَابَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ بِمَا صُورَتُهُ: أَمَّا اجْتِمَاعُ إمَامَيْنِ بِجَمَاعَتَيْنِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُبَابِ وَالشَّيْخُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْغَسَّانِيُّ وَالْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ ظَهِيرَةَ الشَّافِعِيُّ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ سَأَلَهُ عَنْهُ الشَّيْخُ مُوسَى الْمُنَاوِيُّ، وَقَالَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْفَظِيعَةِ وَالْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يُنْكِرُونَهَا فِي الْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ وَيَرُدُّونَهَا عَلَى مُخْتَرِعِهَا الْقَادِمِ مِنْهُمْ وَالْمُقِيمِ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَرَأَى اجْتِمَاعَ الْأَئِمَّةِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا

قَالَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ ظَهِيرَةَ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَبَشَاعَةُ ذَلِكَ وَشَنَاعَتُهُ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ أُلْهِمَ رُشْدَهُ وَلَمْ تَمِلْ بِهِ عَصَبِيَّةٌ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ النَّبَوِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَلَقَدْ يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُصَلِّينَ فِي الْمَوْسِمِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إزَالَةُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ وَعَلَى كُلِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>