للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

على أَن يُلَاحظ معنى الْإِعْطَاء فِي الْبَعْث، فحينئذٍ يكون مَفْعُولا ثَانِيًا لَهُ، وَذكر الْكرْمَانِي فِيهِ وُجُوهًا أُخْرَى مَا تمشي إِلَّا بالتعسف، وَقد استبعد بَعضهم بِأَن قَالَ: نصب على الظَّرْفِيَّة، وَهُوَ مَكَان غير مُبْهَم، فَلَا يجوز أَن يقدر فِيهِ كلمة: فِي. فَإِن قلت: مَا وَجه التنكير فِيهِ؟ قلت: ليَكُون حِكَايَة عَن لفظ الْقُرْآن. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا نكر لِأَنَّهُ أفحم وأجزل، كَأَنَّهُ قيل: مقَاما، أَي: مقَاما مَحْمُودًا بِكُل لِسَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثبتَتْ الرِّوَايَة بالتنكير. قلت: وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهمَا: الْمقَام الْمَحْمُود، بِالْألف وَاللَّام. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَكْثَر على أَن المُرَاد يالمقام الْمَحْمُود: الشَّفَاعَة. وَقيل: إجلاسه على الْعَرْش. وَقيل: على الْكُرْسِيّ وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذِي يحمده الْقَائِم فِيهِ وكل من رَآهُ وعرفه، وَهُوَ مُطلق فِي كل مَا يجلب الْحَمد من أَنْوَاع الكرامات. وَعَن ابْن عَبَّاس: مقَام يحمدك فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ، وتشرف فِيهِ على جَمِيع الْخَلَائق، تُسأل فتعطي، لَيْسَ أحدا إلَاّ تَحت لوائك. وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ الْمقَام الَّذِي أشفع فِيهِ لأمتي. فَإِن قلت: قد وعده الله بالْمقَام الْمَحْمُود، وَهُوَ لَا يخلف الميعاد، فَمَا الْفَائِدَة فِي دُعَاء الْأمة بذلك؟ قلت: أما لطلب الدَّوَام والثبات، وَإِمَّا للْإِشَارَة إِلَى جَوَاز دُعَاء الشَّخْص لغيره، والاستعانة بدعائه فِي حَوَائِجه، وَلَا سِيمَا من الصَّالِحين. قَوْله: (الَّذِي وعدته) بدل من قَوْله: مقَاما، أَو مَرْفُوع بِتَقْدِير: هُوَ، أَو مَنْصُوب على الْمَدْح. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يكون صفة للمقام؟ قلت: أَن قُلْنَا: الْمقَام الْمَحْمُود، صَار علما لذَلِك الْمقَام يجوز أَن يكون صفة، وإلَاّ لَا يجوز لِأَنَّهُ نكرَة. وَأما على رِوَايَة النَّسَائِيّ: الْمقَام الْمَحْمُود، فَيجوز بِلَا نزاع، وَالْمرَاد بالوعد، مَا قَالَه تَعَالَى: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاء: ٧٩) . وَأطلق عَلَيْهِ: الْوَعْد، لِأَن عَسى من الله وَاقع، وَلَيْسَ على بَابه فِي حق الله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (الَّذِي وعدته إِنَّك لَا تخلف الميعاد) . قَوْله: (حلت شَفَاعَتِي) ، جَوَاب: من. وَمعنى: حلت أَي: اسْتحقَّت، وَيكون من الْحَلَال لِأَنَّهُ من كَانَ الشَّيْء حَلَاله كَانَ مُسْتَحقّا لذَلِك، وَبِالْعَكْسِ، وَيجوز أَن يكون من الْحُلُول بِمَعْنى النُّزُول، وَتَكون اللَّام بِمَعْنى: على، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم: (حلت عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (وَجَبت لَهُ) ، وَلَا يجوز أَن يكون من الْحل خلاف الْحُرْمَة، لِأَنَّهَا لم تكن قبل ذَلِك مُحرمَة. فَإِن قيل: كَيفَ جعل ذَلِك ثَوابًا بالقائل ذَلِك مَعَ أَنه ثَبت أَن الشَّفَاعَة للمذنبين؟ وَأجِيب: بِأَن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاعات مُتعَدِّدَة: كإدخال الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَرفع الدَّرَجَات، فَيشفع لكل أحد بِمَا يُنَاسب حَاله. وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن بعض شُيُوخه: أَنه كَانَ يرى تَخْصِيص ذَلِك بِمن قَالَ مخلصا مستحضرا لجلال الله تَعَالَى، لَا بِمن قصد بذلك مُجَرّد الثَّوَاب وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا مُجَرّد تحكم، فَلَيْسَ بمناسب. وَقَالَ بَعضهم: وَلَو كَانَ أخرج من ذَلِك الغافل اللاهي لَكَانَ أشبه، وَفِيه نظر أَيْضا على مَا لَا يخفى.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الحض على الدُّعَاء فِي أَوْقَات الصَّلَاة حِين تفتح أَبْوَاب السَّمَاء للرحمة، وَقد جَاءَ: (ساعتان لَا يرد فيهمَا الدُّعَاء: حَضْرَة النداء بِالصَّلَاةِ، وحضرة الصَّفّ فِي سَبِيل الله) . فدلهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَوْقَات الْإِجَابَة. فَإِن قلت: هَل الْإِتْيَان بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة سَببا لاسْتِحْقَاق الشَّفَاعَة، أَو غَيرهَا يقوم مقَامهَا؟ قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من مُسلم يَقُول، إِذا سمع النداء، فيكبر الْمُنَادِي فيكبر، ثمَّ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَيشْهد على ذَلِك ثمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ أعْط مُحَمَّدًا الْوَسِيلَة واجعله فِي الأعلين دَرَجَته، وَفِي المصطفين محبته، وَفِي المقربين ذكره إلَاّ وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قَوْله: (واجعله) أَي: وَاجعَل لَهُ دَرَجَة فِي الأعلين، وَهُوَ جمع أَعلَى، وَهُوَ صفة من يعقل هَهُنَا لِأَن المُرَاد مِنْهُم الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك جمع بِالْوَاو وَالنُّون، فإعرابه بِالْوَاو حَالَة الرّفْع وبالياء حالتي النصب والجر، وَهَذَا مَقْصُور، والضمة والكسرة فِيهِ مقدرتان فِي حالتي النصب والجر. قَوْله: (المصطفين) ، بِفَتْح الْفَاء جمع: مصطفى، وَهُوَ أَيْضا كَذَلِك بِالْوَاو وبالياء حالتي النصب والجر، والمصطفى: الْمُخْتَار من الصفوة، وَأَصله مصتفى، بِالتَّاءِ، فقلبت طاء كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: (عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: يَا أم سَلمَة إِذا كَانَ عِنْد أَذَان الْمغرب فَقولِي: اللَّهُمَّ عِنْد اسْتِقْبَال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعائك، وَحُضُور صلواتك، إغفر لي) وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: (اللَّهُمَّ هَذَا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك فَاغْفِر لي) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَفِي آخِره: وَكَانَت إِذا تعارت من اللَّيْل تَقول: رب إغفر وَارْحَمْ، واهد السَّبِيل الأقوم، وروى أَبُو

<<  <  ج: ص:  >  >>