للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(الأسئلة والأجوبة) . مِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد بالغنم؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا النَّوْع من المَال نموه وزيادته أبعد من الشوائب الْمُحرمَة كالربا والشبهات الْمَكْرُوهَة، وخصت الْغنم بذلك لما فِيهَا من السكينَة وَالْبركَة، وَقد رعاها الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَعَ أَنَّهَا سهلة الانقياد خَفِيفَة المؤونة كَثِيرَة النَّفْع. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع بالمواضع الخالية مثل شعف الْجبَال وَنَحْوهَا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا أسلم غَالِبا من المعادلات المؤدية إِلَى الكدورات. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه كَون الْغنم خير مَال الْمُسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما كَانَ فِيهَا الْجمع بَين الرِّفْق وَالرِّبْح وصيانة الدّين، كَانَت خير الْأَمْوَال الَّتِي يعْنى بهَا الْمُسلم، وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع الْمَذْكُور بقوله: (يفر بِدِينِهِ) من الْفِتَن وَأجِيب: للإشعار بِأَن هَذَا الِاتِّبَاع يَنْبَغِي أَن يكون استعصاماً للدّين لَا لِلْأَمْرِ الدنيوي كَطَلَب كَثْرَة الْعلف وَقلة أطماع النَّاس فِيهِ. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يجمع بَين مُقْتَضى هَذَا الحَدِيث من اخْتِيَار الْعُزْلَة، وَبَين مَا ندب إِلَيْهِ الشَّارِع من اخْتِلَاط أهل الْمحلة لإِقَامَة الْجَمَاعَة، وَأهل السوَاد مَعَ أهل الْبَلدة للعيد وَالْجُمُعَة، وَأهل الْآفَاق لوقوف عَرَفَة؟ وَفِي الْجُمْلَة اهتمام الشَّارِع بالاجتماع مَعْلُوم، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: يجوز نقل اللَّقِيط من الْبَادِيَة إِلَى الْقرْيَة وَمن الْقرْيَة إِلَى الْبَلَد لاعكسهما؛ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الْفِتْنَة وَعدم وُقُوعه فِي الْمعاصِي وَعند الِاجْتِمَاع بالجلساء الصلحاء، وَأما اتِّبَاع الشعف والمقاطر وَطلب الْخلْوَة والانقطاع إِنَّمَا هُوَ فِي أضداد هَذِه الْحَالَات.

١٣ - (بَاب قَوْلِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّه، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} )

أَي: هَذَا بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْإِضَافَة هَهُنَا متعينة. وَقَوله: (أَنا أعلمكُم بِاللَّه) مقول القَوْل، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَهُوَ لفظ الحَدِيث الَّذِي أوردهُ فِي جَمِيع طرقه، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: أعرفكُم، فَعَن قريب يَأْتِي الْفرق بَين الْمعرفَة وَالْعلم.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ: أَن الْبَاب الأول يبين فِيهِ أَن من الدّين الْفِرَار من الْفِتَن، وَهَذَا لَا يكون إلَاّ على قدر قُوَّة دين الرجل حَيْثُ يحفظ دينه ويعتزل النَّاس خوفًا من الْفِتَن، وَقُوَّة الدّين تدل على قُوَّة الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى، فَكلما كَانَ الرجل أقوى فِي دينه كَانَ أقوى فِي معرفَة ربه، وَمن هَذَا الْبَاب يبين أَن أعرف النَّاس بِاللَّه تَعَالَى هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا جرم هُوَ أقوى دينا من الْكل. وَبَقِي الْكَلَام هَهُنَا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. الأول: أَن هَذَا كتاب الْإِيمَان، فَمَا وَجه تعلق هَذِه التَّرْجَمَة بِالْإِيمَان. وَالثَّانِي: مَا مُنَاسبَة قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) بِمَا قبله، وَلَا تعلق للْحَدِيث بِهِ أصلا وَلَا دلَالَة لَهُ عَلَيْهِ لَا عقلا وَلَا وضعا. وَالثَّالِث: مَا مُنَاسبَة ذكر قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} (الْبَقَرَة: ٢٢٥) هَهُنَا فَلَا تعلق لَهُ بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي الْإِيمَان، وَلَا تعلق لَهُ بِالْبَابِ أَيْضا. قلت: أما وَجه الأول: فَهُوَ أَن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَالْعلم بِهِ من الْإِيمَان، فحينئذٍ دخل فِي كتاب الْإِيمَان، وَفِيه رد على الكرامية لأَنهم يَقُولُونَ: إِن الْإِيمَان مُجَرّد الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَزَعَمُوا أَن الْمُنَافِق مُؤمن فِي الظَّاهِر وَكَافِر فِي السريرة، فَيثبت لَهُ حكم الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحكم الْكَافرين فِي الْآخِرَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِم: بِأَن الْإِيمَان، هُوَ أَو بعضه، فعل الْقلب بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور. وَأما وَجه الثَّانِي: فَهُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، لما أَرَادوا أَن يزِيدُوا أَعْمَالهم على عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: لَا يتهيأ لكم لِأَنِّي أعلمكُم، وَالْعلم من جملَة الْأَفْعَال، بل من أشرفها لِأَنَّهُ عمل الْقلب، فَنَاسَبَ قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) بِمَا قبله. وَأما وَجه الثَّالِث: فَهُوَ أَنه أَرَادَ أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على أَن الْإِيمَان بالْقَوْل وَحده لَا يتم، وَلَا بُد من انضمام العقيدة إِلَيْهِ، وَلَا شكّ أَن الِاعْتِقَاد فعل الْقلب فَهُوَ مُنَاسِب لقَوْله: (وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) . وَلَا يضر استدلاله كَون مورد الْآيَة فِي الْأَيْمَان بِالْفَتْح، لِأَن مدَار الْعلم فِيهَا أَيْضا على عمل الْقلب، فنبه البُخَارِيّ هَهُنَا على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: الرَّد على الكرامية الَّذِي هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذكرنَا وَالْآخر: الدَّلِيل على زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه على مُقْتَضى مذْهبه، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنا أعلمكُم بِاللَّه) يدل ظَاهرا على أَن النَّاس متفاوتون فى معرفَة الله تَعَالَى، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أعلمهم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون الْإِيمَان قَابلا للزِّيَادَة وَالنُّقْصَان. قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة) بِفَتْح الْهمزَة عطفا على القَوْل لَا على الْمَقُول، وإلَاّ لَكَانَ تَكْرَارا، إِذْ الْمَقُول وَمَا عطف عَلَيْهِ حكمهمَا وَاحِد، وَيجوز كسر: إِن وَيكون كلَاما مستأنفاً، قَوْله: (لقَوْل الله تَعَالَى) اسْتِدْلَال

<<  <  ج: ص:  >  >>