للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الرجل لَا أَخْمص لَهُ. وَقيل: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه ممسوحا بدهن. وَقيل: الْمَسِيح الصّديق، وَقيل: هُوَ بالعبرانية مشيحا، فعرب. وَأما تَسْمِيَة الدَّجَّال بِهَذَا اللَّفْظ فَلِأَنَّهُ، خداع ملبس من الدجل، وَهُوَ الْخَلْط، وَيُقَال الطلي والتغطية، وَمِنْه الْبَعِير المدجل أَي: المدهون بالقطران، ودجلة نهر بِبَغْدَاد سميت بذلك لِأَنَّهَا تغطي الأَرْض بِمَائِهَا، وَهَذَا الْمَعْنى أَيْضا فِي الدَّجَّال لِأَنَّهُ يُغطي الأَرْض بِكَثْرَة أَتْبَاعه، أَو يُغطي الْحق بباطله. وَقيل: لِأَنَّهُ مطموس الْعين من قَوْلهم: دجل الْأَثر إِذا عفى ودرس، وَقيل: من دجل أَي: كذب، والدجال: الْكذَّاب. قَوْله: (من فتْنَة الْمحيا وفتنة الْمَمَات) ، والمحيا وَالْمَمَات كِلَاهُمَا مصدران ميميان بِمَعْنى: الْحَيَاة وَالْمَوْت، وَيحْتَمل زمَان ذَلِك، لِأَن مَا كَانَ مُعْتَلًّا من الثلاثي فقد يَأْتِي مِنْهُ الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان بِلَفْظ وَاحِد. أما فتْنَة الْحَيَاة فَهِيَ الَّتِي تعرض للْإنْسَان مُدَّة حَيَاته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأشدها وَأَعْظَمهَا، وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى، أَمر الخاتمة عِنْد الْمَوْت، وَأما فتْنَة الْمَوْت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقيل: فتْنَة الْقَبْر، وَقيل: يحْتَمل أَن يُرَاد بالفتنة عِنْد الاحتضار أضيفت إِلَى الْمَوْت لقربها مِنْهُ. فَإِن قلت: إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: (وفتنة الْمَمَات) فتْنَة الْقَبْر، يكون هَذَا مكررا، لِأَن قَوْله: (من عَذَاب الْقَبْر) يدل على هَذَا؟ قلت: لَا تكْرَار، لِأَن الْعَذَاب يزِيد على الْفِتْنَة، والفتنة سَبَب لَهُ، وَالسَّبَب غير الْمُسَبّب. قَوْله: (من المأثم) أَي: الْإِثْم الَّذِي يجر إِلَى الذَّم والعقوبة، أَو المُرَاد هُوَ الْإِثْم نَفسه، وضعا للمصدر مَوضِع الإسم. قَوْله: (والمغرم) أَي: الدّين، يُقَال: غرم الرجل، بِالْكَسْرِ إِذا أدان. وَقيل: الْغرم والمغرم، مَا يَنُوب الْإِنْسَان فِي مَاله من ضَرَر بِغَيْر جِنَايَة مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يلْزمه أَدَاؤُهُ، وَمِنْه الغرامة، والغريم: الَّذِي عَلَيْهِ الدّين، وَالْأَصْل فِيهِ: الغرام، وَهُوَ الشَّرّ الدَّائِم وَالْعَذَاب. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ قَائِل) أَي: قَالَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِل سَائِلًا عَن وَجه الْحِكْمَة فِي كَثْرَة استعاذته من المغرم، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الرجل إِذا عزم يَعْنِي إِذا لحقه دين حدث فكذب بِأَن يحْتَج بِشَيْء فِي وَفَاء مَا عَلَيْهِ، وَلم يقم بِهِ، فَيصير كَاذِبًا، ووعد فأخلف بِأَن قَالَ لصَاحب الدّين: أوفيك دينك فِي يَوْم كَذَا، أَو فِي شهر كَذَا، أَو فِي وَقت كَذَا، وَلم يوف فِيهِ، فَيصير مُخَالفا لوعده، وَالْكذب وَخلف الْوَعْد من صِفَات الْمُنَافِقين، كَمَا ورد فِي الحَدِيث الْمَشْهُور، فلولا هَذَا الدّين عَلَيْهِ لما ارْتكب هَذَا الْإِثْم الْعَظِيم، وَلما اتّصف بِصِفَات الْمُنَافِقين. وَكلمَة: مَا، فِي قَوْله: (مَا أَكثر مَا تستعيذ) للتعجب، و: مَا، الثَّانِيَة مَصْدَرِيَّة يَعْنِي: مَا أَكثر استعاذتك من المغرم، و: مَا تستعيذ، فِي مَحل النصب. قَوْله: (حدث) ، بِالتَّشْدِيدِ: جَزَاء الشَّرْط. قَوْله: (وَكذب) . بِالتَّخْفِيفِ عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (ووعد) عطف على: حدث. قَوْله: (أخلف) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فأخلف) ، بِالْفَاءِ.

فَإِن قلت: قَوْله: (فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات) يَشْمَل جَمِيع مَا ذكر، فلأي شَيْء خصصت هَذِه الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِالذكر؟ قلت: لعظم شَأْنهَا وَكَثْرَة شَرها، وَلَا شكّ أَن تَخْصِيص بعض مَا يَشْمَلهُ الْعَام من بَاب الاعتناء بأَمْره لشدَّة حكمه، وَفِيه أَيْضا عطف الْعَام على الْخَاص، وَذَلِكَ لفخامة أَمر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَعظم شَأْنه، وَفِيه اللف والنشر الْغَيْر الْمُرَتّب، لِأَن عَذَاب الْقَبْر دَاخل تَحت فتْنَة الْمَمَات، وفتنة الدَّجَّال تَحت فتْنَة الْمحيا. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تعوذه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الْأُمُور الَّتِي قد عصم مِنْهَا؟ قلت: إِنَّمَا ذَلِك ليلتزم خوف الله تَعَالَى، ولتقتدي بِهِ الْأمة، وليبين لَهُم صفة الدُّعَاء. فَإِن قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن مَا فَائِدَة تعوذه من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، مَعَ علمه بِأَنَّهُ مُتَأَخّر عَن ذَلِك الزَّمَان بِكَثِير؟ قلت: فَائِدَته أَن ينتشر خَبره بَين الْأمة من جيل إِلَى جيل، وَجَمَاعَة إِلَى جمَاعَة، بِأَنَّهُ كَذَّاب مُبْطل مفتر ساعٍ على وَجه الأَرْض بِالْفَسَادِ، مموه سَاحر، حَتَّى لَا يلتبس على الْمُؤمنِينَ أمره عِنْد خُرُوجه، عَلَيْهِ اللَّعْنَة، ويتحققوا أمره ويعرفوا أَن جَمِيع دعاويه بَاطِلَة، كَمَا أخبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيجوز أَن يكون هَذَا تَعْلِيما مِنْهُ لأمته أَو تعوذا مِنْهُ لَهُم. فَإِن قلت: يُعَارض التَّعَوُّذ بِاللَّه عَن المغرم مَا رَوَاهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عبد الله بن جَعْفَر، يرفعهُ: (إِن الله تَعَالَى مَعَ الدَّائِن حَتَّى يقْضِي دينه مَا لم يكن فِيمَا يكرههُ الله تَعَالَى) ، وَكَانَ ابْن جَعْفَر يَقُول لِخَادِمِهِ: إذهب فَخذ لي بدين، فَإِنِّي أكره أَن أَبيت اللَّيْلَة، إلاّ وَالله معي. قَالَ الطَّبَرَانِيّ: وكلا الْحَدِيثين صَحِيح. قلت: المغرم الَّذِي استعاذ مِنْهُ إِمَّا أَن يكون فِي مُبَاح، وَلَكِن لَا وَجه عِنْده لقضائه، فَهُوَ متعرض لهلاك مَال أَخِيه، أَو يستدين وَله إِلَى الْقَضَاء سَبِيل غير أَنه يرى ترك الْقَضَاء، وَهَذَا لَا يَصح إلاّ أذا نزل كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّعْلِيم، لأمته، أَو يستدين من غير حَاجَة طَمَعا فِي مَال أَخِيه وَنَحْو ذَلِك، وَحَدِيث جَعْفَر فِيمَن يستدين لاحتياجه، احتياجا شَرْعِيًّا وَنِيَّته الْقَضَاء، وَإِن لم يكن لَهُ سَبِيل إِلَى الْقَضَاء

<<  <  ج: ص:  >  >>