للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

النَّوْع الثَّانِي: فِي بَيَان مَذَاهِب الْأَئِمَّة فِي هَذَا الْبَاب، فَذهب قوم إِلَى ظَاهر هَذِه الْأَحَادِيث وأجازوا الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء فِي السّفر فِي وَقت أَحدهمَا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الْجُمْهُور: الْمُسَافِر يجوز لَهُ الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء مُطلقًا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين. وَفِي الْمَسْأَلَة سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: جَوَاز الْجمع مثل مَا قَالَه ابْن بطال، وروى ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد وَأُسَامَة بن زيد ومعاذ بن جبل وَأَبُو مُوسَى وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين، مِنْهُم: عَطاء بن أبي رَبَاح وطاووس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد وَرَبِيعَة الرَّأْي وَأَبُو الزِّنَاد وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَصَفوَان بن سليم، وَبِه قَالَ جمَاعَة من الْأَئِمَّة مِنْهُم: سُفْيَان الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَمن الْمَالِكِيَّة: أَشهب، وَحَكَاهُ ابْن قدامَة عَن مَالك أَيْضا، وَالْمَشْهُور عَن مَالك: تَخْصِيص الْجمع بجد السّير. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّمَا يجوز الْجمع إِذا جد بِهِ السّير، رُوِيَ ذَلِك عَن أُسَامَة بن زيد وَابْن عمر وَهُوَ قَول مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ. القَوْل الثَّالِث: إِنَّه تجوز إِذا أَرَادَ قطع الطَّرِيق، وَهُوَ قَول ابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَأما قَول ابْن حبيب فَهُوَ قَول الشَّافِعِي، لِأَن السّفر نَفسه إِنَّمَا هُوَ لقطع الطَّرِيق. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْجمع مَكْرُوه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: إِنَّهَا رِوَايَة المصريين عَن مَالك. وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه يجوز جمع التَّأْخِير لَا جمع التَّقْدِيم، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن حزم. وَالْقَوْل السَّادِس: أَنه لَا يجوز مُطلقًا بِسَبَب السّفر، وَإِنَّمَا يجوز بِعَرَفَة والمزدلفة، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْأسود وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ فِي (التَّلْوِيح) : وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه إِلَى منع الْجمع فِي غير هذَيْن المكانين، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص فِيمَا ذكره ابْن شَدَّاد فِي كِتَابه (دَلَائِل الْأَحْكَام) وَابْن عمر فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَمَكْحُول وَعَمْرو بن دِينَار وَالثَّوْري وَالْأسود وَأَصْحَابه وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَالم وَاللَّيْث بن سعد، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا أَبُو هِلَال عَن حَنْظَلَة السدُوسِي عَن أبي مُوسَى أَنه قَالَ: الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ من غير عذر من الْكَبَائِر، قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَأما قَول النَّوَوِيّ: إِن أَبَا يُوسُف ومحمدا خالفا شيخهما، وَإِن قَوْلهمَا كَقَوْل الشَّافِعِي وَأحمد فقد رده عَلَيْهِ صَاحب (الْغَايَة فِي شرح الْهِدَايَة) بِأَن هَذَا لَا أصل لَهُ عَنْهُمَا. قلت: الْأَمر كَمَا قَالَه، وأصحابنا أعلم بِحَال أَئِمَّتنَا الثَّلَاثَة، رَحِمهم الله. وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم (عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة لغير وَقتهَا إلاّ بِجمع فَإِنَّهُ جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، وَصلى صَلَاة الصُّبْح فِي الْغَد قبل وَقتهَا) ، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم عَن أبي قَتَادَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط، إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة أَن يُؤَخر صَلَاة حَتَّى يدْخل وَقت صَلَاة أُخْرَى) .

وَالْجَوَاب عَن هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْجمع فِي غير عَرَفَة، وَجمع، مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ فِي (شرح مَعَاني الْآثَار) : أَنه صلى الأولى فِي آخر وَقتهَا، والانية فِي أول وَقتهَا،، لَا أَنه صلاهما فِي وَقت وَاحِد، وَيُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، وَالْمغْرب وَالْعشَاء جَمِيعًا فِي غير خوف وَلَا سفر) . رَوَاهُ مُسلم وَفِي لفظ قَالَ (جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء بِالْمَدِينَةِ فِي غير خوف وَلَا مطر. قيل لِابْنِ عَبَّاس: مَا أَرَادَ إِلَى ذَلِك؟ قَالَ: أَرَادَ أَن لَا يحرج أمته. قَالَ: وَلم يقل أحد منا وَلَا مِنْهُم بِجَوَاز الْجمع فِي الْحَضَر، فَدلَّ على أَن معنى الْجمع مَا ذَكرْنَاهُ من تَأْخِير الأولى إِلَى آخر وَقتهَا وَتَقْدِيم الثَّانِيَة فِي أول وَقتهَا. فَإِن قلت: لفظ مُسلم فِي حَدِيث الْبَاب: (أَن ابْن عمر كَانَ إِذا جد بِهِ السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بعد أَن يغيب الشَّفق، وَيَقُول: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا جد بِهِ السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء) . وَهَذَا صَرِيح فِي الْجمع فِي وَقت إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه إبِْطَال تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم: إِن المُرَاد بِالْجمعِ تَأْخِير الأولى إِلَى آخر وَقتهَا وَتَقْدِيم الثَّانِيَة فِي أول وَقتهَا؟ قلت: الشَّفق نَوْعَانِ: أَحْمَر وأبيض، كَمَا اخْتلف فِيهِ الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء، فَيحْتَمل أَنه جمع بَينهمَا بعد غياب الْأَحْمَر فَتكون الْمغرب فِي وَقتهَا على قَول من يَقُول: الشَّفق هُوَ الْأَبْيَض، وَكَذَلِكَ الْعشَاء تكون فِي وَقتهَا على قَول من يَقُول: الشَّفق هُوَ الْأَحْمَر، وَيُطلق عَلَيْهِ أَنه جمع بَينهمَا بعد غياب الشَّفق، وَالْحَال أَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا وَقعت فِي وَقتهَا على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ فِي الشَّفق، فَهَذَا يُسمى جمعا: صُورَة لَا وقتا. فَإِن قلت: لفظ النَّسَائِيّ فِي حَدِيث ابْن عمر: (جمع بَين الظّهْر وَالْعصر حِين كَانَ بَين الصَّلَاتَيْنِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>