للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مَا قيل: لفظ: من يقم لَيْلَة الْقدر، هَل يَقْتَضِي قيام تَمام اللَّيْلَة، أَو يَكْفِي أقل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْقيام؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يَكْفِي الْأَقَل وَعَلِيهِ بعض الْأَئِمَّة، حَتَّى قيل بكفاية فرض صَلَاة الْعشَاء فِي دُخُوله تَحت الْقيام فِيهَا، لَكِن الظَّاهِر مِنْهُ عرفا أَنه لَا يُقَال: قيام اللَّيْلَة، إلَاّ إِذا قَامَ كلهَا أَو أَكْثَرهَا. قلت: قَوْله: (من يقم لَيْلَة الْقدر) . مثل: من يصم يَوْمًا، فَكَمَا لَا يَكْفِي صَوْم بعض الْيَوْم وَلَا أَكْثَره، فَكَذَلِك لَا يَكْفِي قيام بعض لَيْلَة الْقدر وَلَا أَكْثَرهَا، وَذَلِكَ لِأَن لَيْلَة الْقدر وَقعت مَفْعُولا لقَوْله: يقم، فَيَنْبَغِي أَن يُوصف جَمِيع اللَّيْلَة بِالْقيامِ، لِأَن من شَأْن الْمَفْعُول أَن يكون مشمولاً بِفعل الْفَاعِل. فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى الْقيام فِيهَا إِذْ ظَاهره غير مُرَاد قطعا؟ وَأجِيب: بِأَن الْقيام للطاعة كَأَنَّهُ مَعْهُود من قَوْله تَعَالَى: {قومُوا لله قَانِتِينَ} (الْبَقَرَة: ٢٣٨) وَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة فِيهِ. وَمِنْهَا مَا قيل: الذَّنب علم لِأَنَّهُ اسْم جنس مُضَاف، فَهَل يَقْتَضِي مغْفرَة ذَنْب يتَعَلَّق بِحَق النَّاس؟ وَأجِيب: بِأَن لَفظه مُقْتَض لذَلِك مُقْتَض لذَلِك، وَلَكِن علم من الْأَدِلَّة الخارجية أَن حُقُوق الْعباد لَا بُد فِيهَا من رضى الْخُصُوم، فَهُوَ عَام اخْتصَّ بِحَق الله تَعَالَى وَنَحْوه بِمَا يدل على التَّخْصِيص، وَقيل: يجوز أَن تكون: من، تبعيضية. وَفِيه نظر.

٢٦ - (بابٌ الْجِهادُ مِنَ الإيمانِ)

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع الأول: قَوْله: (بَاب) لَا يسْتَحق الْإِعْرَاب إِلَّا بِتَقْدِير: هَذَا بَاب، فَيكون خَبرا مَحْذُوف الْمُبْتَدَأ. وَقَوله: (الْجِهَاد) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره: (من الْإِيمَان) وَلَا يجوز فِيهِ غير الرّفْع. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ قيام لَيْلَة الْقدر، وَلَا يحصل ذَلِك، إِلَّا بالمجاهدة التَّامَّة ومقاساة الْمَشَقَّة وَترك الِاخْتِلَاط بالأهل والعيال، فَكَذَلِك الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب حَال الْمُجَاهِد الَّذِي لَا يحصل لَهُ الْحَظ من الْجِهَاد، وَلَا يُسمى مُجَاهدًا إلَاّ بالمجاهدة التَّامَّة ومقاساة الْمَشَقَّة الزَّائِدَة وَترك الْأَهْل والعيال، وكما أَن الْقَائِم لَيْلَة الْقدر يجْتَهد أَن ينَال رُؤْيَة تِلْكَ اللَّيْلَة ويتحلى بهَا، وإلَاّ فيكتسب أجورا عَظِيمَة، فَكَذَلِك الْمُجَاهِد يجْتَهد أَن ينَال دَرَجَة الشُّهَدَاء ومنزلتهم وإلَاّ فَيرجع بغنيمة وافرة مَعَ اكْتِسَاب اسْم الْغُزَاة، فَهَذَا هُوَ وَجه الْمُنَاسبَة وَإِن كَانَ التَّرْتِيب الوضعي يَقْتَضِي أَن يذكر بَاب تطوع قيام رَمَضَان عقيب هَذَا الْبَاب، وَبَاب صَوْم رَمَضَان عقيب هَذَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل لترتيب الْكتاب وتوسيط الْجِهَاد بَين قيام لَيْلَة الْقدر وَقيام رَمَضَان وصيامه مُنَاسبَة أم لَا؟ قلت: مناسبته تَامَّة وَهِي الْمُشَاركَة فِي كَون كل من الْمَذْكُورَات من أُمُور الْإِيمَان. وتوسيط الْجِهَاد مشْعر بِأَن النّظر مَقْطُوع عَن غير هَذِه الْمُنَاسبَة. قلت: يُرِيد بِكَلَامِهِ هَذَا أَن الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْأَبْوَاب كلهَا هِيَ اشتراكها فِي كَونهَا من خِصَال الْإِيمَان، مَعَ قطع النّظر عَن طلب الْمُنَاسبَة بَين كل بَابَيْنِ من الْأَبْوَاب، وَهَذَا كَلَام من يعجز عَن إبداء وَجه الْمُنَاسبَة الْخَاصَّة مَعَ الْمُنَاسبَة الْعَامَّة، وَمَا يَنْبَغِي أَن يذكر مَا ذكرته، فَافْهَم. الثَّالِث: معنى قَوْله: (الْجِهَاد من الْإِيمَان) الْجِهَاد شُعْبَة من شعب الْإِيمَان. وَقَالَ ابْن بطال وَعبد الْوَاحِد، الشارحان: هَذَا كالأبواب الْمُتَقَدّمَة فِي أَن الْأَعْمَال إِيمَان، لِأَنَّهُ لما كَانَ الْإِيمَان هُوَ الْمخْرج لَهُ فِي سَبيله، كَانَ الْخُرُوج إِيمَانًا تَسْمِيَة للشَّيْء باسم سَببه، كَمَا قيل للمطر سَمَاء لنزوله من السَّمَاء، وللنبات. توأ لِأَنَّهُ ينشأ من النوء، وَالْجهَاد الْقِتَال مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة الله تَعَالَى.

٣٦ - حدّثنا حَرَمِيُّ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدّثنا عبدُ الوَاحِدِ قَالَ حدّثنا عُمَارَةُ قَالَ حدّثنا أبُو زُرْعَةَ بنُ عَمْرو بنِ جَرِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إلَاّ إيمانٌ بِي وتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَن أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرِ أَو غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ وَلَوْلَا أنْ أشُقَّ على أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلوِددْتُ أنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُم أُحْيا ثمَّ أُقْتَلُ ثمَّ أُحيا ثمَّ أُقتل..

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَن الْمخْرج للْجِهَاد فِي سَبِيل الله تَعَالَى لما كَانَ هُوَ كَونه مُؤمنا بِاللَّه ومصدقا برسله، كَانَ خُرُوجه من الْإِيمَان، وَالْجهَاد هُوَ الْخُرُوج فِي سَبِيل الله لِلْقِتَالِ مَعَ أعدائه، وَقد ثَبت أَن الْخُرُوج من الْإِيمَان، فينتج أَن الْجِهَاد من الْإِيمَان.

<<  <  ج: ص:  >  >>