للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثوب كَائِن على بدنه، قَوْله: (كَانَ يمرض فِيهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من التمريض، من مَرضت فلَانا بِالتَّشْدِيدِ إِذا أَقمت عَلَيْهِ بالتعهد والمداواة، قَوْله: (بِهِ ردع) ، أَي: بِهَذَا الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهِ ردع، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ اللطخ والأثر، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: (من زعفران) ، للْبَيَان. قَوْله: (وزيدوا عَلَيْهِ) أَي: على هَذَا الثَّوْب. قَوْله: (فيهمَا) أَي: فِي الْمَزِيد والزيد عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: إِن كَانَت الرِّوَايَة: فِيهَا، فَالضَّمِير عَائِد إِلَى الأثواب الثَّلَاثَة، وَإِن كَانَت: فيهمَا، يَعْنِي بالتثنية، فكأنهما جَعلهمَا جِنْسَيْنِ: الثَّوْب الَّذِي كَانَ يمرض فِيهِ جِنْسا، والثوبين الآخرين جِنْسا، فذكرهما بِلَفْظ التَّثْنِيَة. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: فِيهَا بإفراد الضَّمِير. قَوْله: (قلت: إِن هَذَا خلق) أَي: قَالَت عَائِشَة: إِن هَذَا الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهِ خلق، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام، أَي: بَال، عَتيق، وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عِنْد ابْن سعد: (أَلا تجعلها جددا كلهَا؟ قَالَ: لَا) . وَيفهم من هَذَا أَنه كَانَ يرى عدم المغالاة فِي الأكفان، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله بعد ذَلِك: (إِن الْحَيّ أَحَق بالجديد، إِنَّمَا هُوَ للمهلة) ، بِضَم الْمِيم وَهُوَ: الْقَيْح والصديد، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بالمهلة مَعْنَاهَا الْمَشْهُور، أَي: الْجَدِيد لمن يرى المهلة فِي بَقَائِهِ، ويروى: المهلة، بِكَسْر الْمِيم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: فَإِنَّمَا هما للمهل وَالتُّرَاب، ويروى: للمهلة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا وَهُوَ: الْقَيْح والصديد الَّذِي يذوب. وَقيل: من الْجَسَد، وَمِنْه قيل للنحاس الذائب: مهل. وَقَالَ ابْن حبيب: المهلة، بِالْكَسْرِ: الصديد وَبِفَتْحِهَا من التمهل وَبِضَمِّهَا عكر الزَّيْت الْأسود المظلم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ} (المعارج: ٨) . وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي هَذَا الحَدِيث إِنَّهَا صديد الْمَيِّت، زَعَمُوا أَن الْمهل ضرب من القطران، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا تغَالوا فِي الْكَفَن فَإِنَّهُ يسلب سَرِيعا) . قَوْله: (لَا تغَالوا) ، من المغالاة وَهِي مُجَاوزَة الْعدَد، وَالْمعْنَى: لَا تبالغوا. قَوْله: (يسلب سَرِيعا) يَعْنِي: يسلب الْمَيِّت الْكَفَن، وَالْمعْنَى: يبْلى عَلَيْهِ وَيقطع وَلَا يبْقى وَلَا ينْتَفع بِهِ الْمَيِّت. فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه مُسلم عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) . وَفِي رِوَايَة الْحَارِث بن أُسَامَة وَأحمد بن منيع: (إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه فَإِنَّهُم يبعثون فِي أكفانهم ويتزاورون فِي أكفانهم) . وَفِي رِوَايَة أبي نصر عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَحْسنُوا أكفان مَوْتَاكُم فَإِنَّهُم يتباهون ويتزاورون) . قلت: لَا تعَارض بَينهمَا، لِأَن المُرَاد بِهِ لَيْسَ بالمغالاة فِي ثمنه ورقته، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ كَونه جَدِيدا أَبيض، حَكَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن سَلام بن أبي مُطِيع، وروى ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَنه كَانَ يُعجبهُ الْكَفَن الصفيق، وروى أَيْضا عَن جَعْفَر بن مَيْمُون، قَالَ: كَانُوا يستحبون أَن تكون الْمَرْأَة فِي غِلَاظ الثِّيَاب، وروى أَيْضا عَن الْحسن وَمُحَمّد أَنه: كَانَ يعجبهما أَن يكون الْكَفَن كتانا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن الحنيفة. قَالَ: لَيْسَ للْمَيت من الْكَفَن شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ تكرمة الْحَيّ. وَقيل فِي الْجمع بَينهمَا: يحمل التحسين على الصّفة، وَتحمل المغالاة على الثّمن، وَقيل: التحسين حق الْمَيِّت فَإِذا أوصى بِتَرْكِهِ اتبع، كَمَا فعل الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون اخْتَار ذَلِك الثَّوْب بِعَيْنِه لِمَعْنى فِيهِ من التَّبَرُّك بِهِ، لكَونه كَانَ جَاهد فِيهِ أَو تعبد فِيهِ، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن سعد من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، قَالَ أَبُو بكر: كفنوني فِي ثوبي اللَّذين كنت أُصَلِّي فيهمَا. قلت: يحْتَمل وَجها آخر وَهُوَ أَن الثَّوْب الَّذِي اخْتَارَهُ كَانَ وصل إِلَيْهِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك اخْتَارَهُ تبركا بِهِ، وَحقّ لَهُ هَذَا الِاخْتِيَار.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب التَّكْفِين فِي الثِّيَاب الْبيض. وَفِيه: اسْتِحْبَاب تثليث الْكَفَن. وَفِيه: جَوَاز التَّكْفِين فِي الثِّيَاب المغسولة. وَفِيه: إِيثَار الْحَيّ بالجديد. وَفِيه: جَوَاز دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب طلب الْمُوَافقَة فِيمَا وَقع للأكابر تبركا بذلك. وَفِيه: أَخذ الْمَرْء الْعلم عَمَّن دونه. وَفِيه: فضل أبي بكر وَصِحَّة فراسته وثباته عِنْد وَفَاته، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: أَن وَصِيَّة الْمَيِّت مُعْتَبرَة فِي كَفنه وَغير ذَلِك من أمره إِذا وَافق صَوَابا، فَإِن أوصى بسرف، فَعَن مَالك: يُكفن بِالْقَصْدِ، فَإِن لم يوص لم ينقص عَن ثَلَاثَة أَثوَاب من جنس لِبَاسه فِي حَيَاته، لِأَن الزِّيَادَة عَلَيْهَا وَالنَّقْص مِنْهَا خُرُوج بِهِ عَن عَادَته، وَلَا خلاف فِي جَوَاز التَّكْفِين فِي خلق الثِّيَاب إِذا كَانَت سَالِمَة من الْقطع وساترة لَهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: فِيهِ: أَن التَّكْفِين فِي الثَّوْب الْجَدِيد والخلق سَوَاء، وَاعْترض عَلَيْهِ بِاحْتِمَال أَن يكون أَبُو بكر اخْتَارَهُ لِمَعْنى من الْمعَانِي الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، وعَلى تَقْدِير أَن لَا يكون كَذَلِك فَلَا دَلِيل فِيهِ على الْمُسَاوَاة. وَالله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>