للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

امْرَأَة قَصِيرَة وَلم تكن أطولنا، فَعرفنَا حِينَئِذٍ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَرَادَ بطول الْيَد: الصَّدَقَة) . وَكَانَت زَيْنَب امْرَأَة صناع بِالْيَدِ، فَكَانَت تدبغ وتخرز وَتصدق فِي سَبِيل الله. قَالَ الْحَاكِم: على شَرط مُسلم، وَهَذِه رِوَايَة مفسرة مبينَة مرجحة لرِوَايَة عَائِشَة بنت طَلْحَة فِي أَمر زَيْنَب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا يَخْلُو أَن يُقَال: إِمَّا أَن فِي الحَدِيث اختصارا وتلفيقا يَعْنِي: اختصر البُخَارِيّ الْقِصَّة وَنقل الْقطعَة الْأَخِيرَة من حَدِيث فِيهِ ذكر زَيْنَب، فالضمائر رَاجِعَة إِلَيْهَا. وَإِمَّا أَنه اكْتفى بشهرة الْحِكَايَة وَعلم أهل هَذَا الشَّأْن بِأَن الأسرع لُحُوقا هِيَ زَيْنَب، فتعود الضمائر إِلَى من هِيَ مُفْردَة فِي أذهانهم. وَإِن أَن يؤول الْكَلَام بِأَن الضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحوقها بِهِ أَولا، وَعلمنَا بعد ذَلِك أَنَّهَا هِيَ الَّتِي طول صَدَقَة يَديهَا، وَالْحَال أَنَّهَا كَانَت أسْرع لُحُوقا بِهِ، وَكَانَت محبَّة للصدقة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي لَيْسَ بسديد، لَا من جِهَة التَّوْفِيق بَين الْأَخْبَار، وَلَا من جِهَة مَا يَقْتَضِيهِ تركيب الْكَلَام، بل كَلَامه بعيد جدا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قَوْله: (فَعلمنَا بعد) ، يَعْنِي فهمنا من قَوْله: (أَطْوَلكُنَّ يدا) ابْتِدَاء ظَاهره فأخذنا لذَلِك قَصَبَة نذرع بهَا يدا يدا لنَنْظُر أَيّنَا أطول يدا، فَلَمَّا فطنا محبتها الصَّدَقَة، وَعلمنَا أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يرد بِالْيَدِ الْعُضْو، وبالطول طولهَا، بل أَرَادَ الْعَطاء وكثرته، أجريناه على الصَّدَقَة. فاليد هَهُنَا استعادة للصدقة، والطول ترشيح لَهَا لِأَنَّهُ ملائم للمستعار مِنْهُ. وَلَو قيل: أكبركن، لَكَانَ تجريدا لَهَا. وَقيل: وَجه الْجمع أَن فِي قَوْلهَا: فَعلمنَا بعد إِشْعَار بأنهن حملن طول الْيَد على ظَاهره، ثمَّ علِمْنَ بعد ذَلِك خلا مَا اعتقدن أَولا، وَقد انحصر الثَّانِي فِي زَيْنَب للاتفاق على أَنَّهَا آخِرهنَّ موتا، فَتعين أَن تكون هِيَ المرادة، وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الضمائر بعد قَوْله: فَكَانَت، وَاسْتغْنى عَن تَسْمِيَتهَا لشهرتها بذلك. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَكَأن هَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَون البُخَارِيّ حذف لفظ سَوْدَة من سِيَاق الحَدِيث لما أخرجه فِي (الصَّحِيح) لعلمه بالوهم فِيهِ، وَأَنه سَاقه فِي التَّارِيخ (بِإِثْبَات ذكرهَا. انْتهى) قلت: قَول الْقَائِل الأول: فَتعين أَن تكون هِيَ المرادة إِلَى آخِره غير مُسلم، فَمن أَيْن التَّعْيِين من التَّرْكِيب على أَن زَيْنَب هِيَ المرادة؟ وَكَيف تَقول: وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الضمائر بعد قَوْله: فَكَانَت؟ وَاسْتغْنى عَن تَسْمِيَتهَا؟ أَي: عَن تَسْمِيَة زَيْنَب لشهرتها بذلك، وَالْمَذْكُور فِيهِ بالتصريح سَوْدَة، وَلَا يُبَادر الذِّهْن إلَاّ إِلَى أَن الضَّمِير فِي فَكَانَت يرجع إِلَى سَوْدَة بِمُقْتَضى حق التَّرْكِيب، وَهَذَا الَّذِي قَالَه خلاف مَا يَقْتَضِيهِ حق التَّرْكِيب، وَقَول بَعضهم: وَكَانَ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَون البُخَارِيّ حذف لفظ سَوْدَة إِلَى آخِره كَلَام تمجه الأسماع لِأَنَّهُ كَيفَ يحذف لفظ سَوْدَة فِي (الصَّحِيح) بالوهم ويثبته فِي (التَّارِيخ) وَكَانَ اللَّائِق بِهِ أَن يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن من حمل الْكَلَام على ظَاهره وَحَقِيقَته لم يلم وَإِن كَانَ مُرَاد الْمُتَكَلّم مجازه، لِأَن نسْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حملن طول الْيَد على الْحَقِيقَة، فَلم يُنكر عَلَيْهِنَّ. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من طَرِيق يزِيد بن الْأَصَم (عَن مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُنَّ: لَيْسَ ذَلِك، أَعنِي، إِنَّمَا أَعنِي أصنعكن يدا) . قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف جدا، وَلَو كَانَ ثَابتا لم يحتجن بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذرع أَيْدِيهنَّ، كَمَا مر فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة. وَفِيه: دلَالَة على أَن الحكم للمعاني لَا للألفاظ، لِأَن النسْوَة فهمن من طول الْيَد الْجَارِحَة، وَإِنَّمَا المُرَاد بالطول كَثْرَة الصَّدَقَة، قَالَه الْمُهلب، وَلكنه غير مطرد فِي جَمِيع الْأَحْوَال. وَفِيه: علم من أَعْلَام النُّبُوَّة ظَاهر. وَفِيه: أَنه لما كَانَ السُّؤَال عَن آجال مقدرَة لَا تعلم إلَاّ بِالْوَحْي، أجابهنصلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ غير صَرِيح، وأحالهن على مَا لَا يتَبَيَّن إلَاّ بِآخِرهِ، وساغ ذَلِك لكَونه لَيْسَ من الْأَحْكَام التكليفية. وَفِيه: على مَا قَالَه بَعضهم جَوَاز إِطْلَاق اللَّفْظ الْمُشْتَرك بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِغَيْر قرينَة إِذا لم يكن هُنَاكَ مَحْذُور. قلت: لَيْت شعري مَا اللَّفْظ الْمُشْتَرك هُنَا حَتَّى يجوز إِطْلَاقه بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز؟ فَإِن كَانَ مُرَاده لفظ: الطول، فَهُوَ غير مُشْتَرك، بل هُوَ ترشيح الإستعادة، وَإِن كَانَ مُرَاده لفظ: الْيَد، فَهُوَ لَيْسَ بمشترك هُنَا، بل هُوَ اسْتِعَارَة للصدقة على مَا ذكرنَا.

٢١ - (بابُ صَدَقَةِ العَلَانِيَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر صَدَقَة الْعَلَانِيَة، وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا من الحَدِيث، لِأَن الظَّاهِر أَنه لم يجد حَدِيثا فِيهِ على شَرطه، وَاكْتفى بِالْآيَةِ.

وقَوْلِهِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ سِرَّا وعَلَانِيَّةً} إِلَى قولِهِ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: ٤٧٢) .

<<  <  ج: ص:  >  >>