للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

٦٢ - (بابُ التَّلْبِيَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَهِي مصدر من لبَّى يُلَبِّي، وَأَصله: لبب على وزن: فعلل، لَا: فعل، فقلبت الْبَاء الثَّالِثَة يَاء استثقالاً لثلاث ياءات، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقَوْلهمْ لبّى يُلَبِّي، مُشْتَقّ من لفظ: لبيْك، كَمَا قَالُوا: حمدل وحوقل. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَإِنَّمَا الصَّحِيح الَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد التصريفية أَن لفظ: لبّى، مُشْتَقّ من لفظ: التَّلْبِيَة، وَقِيَاس ذَلِك على: حمدل وحوقل، فِي غَايَة الْبعد من الْقَاعِدَة، لِأَن حمدل، لَفْظَة مَبْنِيَّة من: الْحَمد لله، وحوقل من: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَقيل فِيهِ: حولق، بِتَقْدِيم اللَّام على الْقَاف، وَمعنى التَّلْبِيَة الْإِجَابَة، فَإِذا قَالَ الرجل لمن دَعَاهُ: لبيْك، فَمَعْنَاه أجبْت لَك فِيمَا قلت: وَاخْتلف فِي لفظ: لبيْك، وَمَعْنَاهُ. أما لَفظه فتثنية عِنْد سِيبَوَيْهٍ يُرَاد بهَا التكثير فِي الْعدَد وَالْعود مرّة بعد مرّة، لَا أَنَّهَا لحقيقة التَّثْنِيَة بِحَيْثُ لَا يتَنَاوَل إلَاّ فردين! وَقَالَ يُونُس: هُوَ مُفْرد، وَالْيَاء فِيهِ كالياء فِي: لديك وَعَلَيْك وَإِلَيْك، يَعْنِي فِي انقلابها يَاء، لاتصالها بالضمير. وَأما مَعْنَاهُ فَقيل: مَعْنَاهُ إِجَابَة بعد إِجَابَة أَو إِجَابَة لَازِمَة. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَمثله: حنانيك، أَي تحننا بعد تَحَنن، وَقيل: مَعْنَاهُ أَنا مُقيم على طَاعَتك إِقَامَة بعد إِقَامَة من ألبَّ بِالْمَكَانِ كَذَا، ولبَّ بِهِ إِذا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَه. وَقيل: مَعْنَاهُ إتجاهي إِلَيْك من قَوْلهم دَاري تلب بدارك، أَي: تواجهها. وَقيل: محبتي لَك من قَوْلهم: امْرَأَة لبة إِذا كَانَت محبَّة لزَوجهَا أَو عاطفة على وَلَدهَا. وَقيل: مَعْنَاهُ إخلاصي لَك، من قَوْلهم: حسب لباب، أَي: خَالص. وَقيل: قربا مِنْك من الإلباب وَهُوَ الْقرب. وَقيل: خاضعا لَك، وَالْأول مِنْهَا أظهر وَأشهر، لِأَن الْمحرم مُجيب لدعاء الله إِيَّاه فِي حج بَيته، وَعَن الْفراء: لبيْك، مَنْصُوب على الْمصدر، وَأَصله لبا لَك، فَثنى للتَّأْكِيد أَي إلبابا بعد إلباب، وَقَالَ عِيَاض: وَهَذِه إِجَابَة لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لقَوْله تَعَالَى: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} (الْحَج: ٧٢) . والداعي هُوَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دعى النَّاس إِلَى الْحَج على جبل أبي قبيس، وعَلى حجر الْمقَام. وَقيل: عِنْد ثنية كداء، وَزعم ابْن حزم أَن التَّلْبِيَة شَرِيعَة أَمر الله بهَا لَا عِلّة لَهَا إلَاّ قَوْله تَعَالَى: {وليبلوكم أَيّكُم أحسن عملا} (هود: ٧، الْملك: ٢) .

٩٤٥١ - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُف قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ تَلْبِيَةَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَة لَكَ وَالمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَهَذِه الَّتِي رَوَاهَا ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هِيَ كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَلم يتَعَرَّض البُخَارِيّ لحكم التَّلْبِيَة، وفيهَا أَقْوَال على مَا نذكرهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه.

الأول: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: (لبيْك اللَّهُمَّ) ، يَعْنِي: يَا الله أجبناك فِيمَا دَعوتنَا. وَقيل: إِنَّهَا إِجَابَة للخليل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لما فرغ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام من بِنَاء الْبَيْت، قيل لَهُ: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} (الْحَج: ٧٢) . قَالَ: رب وَمَا يبلغ صوتي؟ قَالَ: أذن وَعلي الْبَلَاغ. قَالَ: فَنَادَى إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَيهَا النَّاس كتب عَلَيْكُم الْحَج إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق، فَسَمعهُ من بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، أَفلا ترَوْنَ النَّاس يجيئون من أقْصَى الأَرْض يلبون) ؟ وَمن طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: وَفِيه: (وأجابوه بِالتَّلْبِيَةِ فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء وَأول من أَجَابَهُ أهل الْيمن، فَلَيْسَ حَاج يحجّ من يَوْمئِذٍ إِلَى أَن تقوم السَّاعَة إلَاّ من كَانَ أجَاب إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ) . قَوْله: (إِن الْحَمد) روى بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، أما وَجه الْكسر فعلى الِاسْتِئْنَاف، وَهُوَ ابْتِدَاء كَلَام، كَأَنَّهُ لما قَالَ: لبيْك، اسْتَأْنف كلَاما آخر فَقَالَ: إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مُحَمَّد بن الْحسن وَالْكسَائِيّ، رحمهمَا الله تَعَالَى. وَأما وَجه الْفَتْح فعلى التَّعْلِيل كَأَنَّهُ يَقُول: أَجَبْتُك، لِأَن الْحَمد وَالنعْمَة لَك، وَالْكَسْر أَجود عِنْد الْجُمْهُور، قَالَ ثَعْلَب: لِأَن من كسر جعل مَعْنَاهُ: إِن الْحَمد لَك على كل حَال، وَمن فتح قَالَ: مَعْنَاهُ، لبيْك لهَذَا السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: لهج الْعَامَّة بِالْفَتْح، وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ عَن الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن عبد الْبر:

<<  <  ج: ص:  >  >>