للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تَقْبِيل الْحجر، فَإِن لم يُمكنهُ وَلم يصل إِلَيْهِ اسْتَلم بِيَدِهِ، وَقيل يَده، وَإِن كَانَ لم يصل إِلَيْهِ استقبله إِذا حَاذَى بِهِ وَكبر، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي انْتهى. وَخَالف مَالك فِي تَقْبِيل الْيَد، فَقَالَ: يستلمه وَلَا يقبل يَده، وَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ عَنهُ، وَالْجُمْهُور على أَنه يستلمه ثمَّ يقبل يَده، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَجَابِر وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَابْن أبي مليكَة وَعِكْرِمَة بن خَالِد وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد وَعَمْرو بن دِينَار، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وروى الْحَاكِم من حَدِيث جَابر: (بَدَأَ بِالْحجرِ الْأسود فاستلمه، وفاضت عَيناهُ بالبكاء وَقَبله، وَوضع يَده عَلَيْهِ وَمسح بهما وَجهه) . وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَنهُ أَنه قبله ثَلَاثًا. وَعند الْحَاكِم: وَسجد عَلَيْهِ، وَصحح إِسْنَاده، وَفِيه كَرَاهَة تَقْبِيل مَا لم يرد الشَّرْع بتقبيله من الْأَحْجَار وَغَيرهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَأما قَول الشَّافِعِي: وَمهما قبل من الْبَيْت فَحسن، فَإِنَّهُ لم يرد بالْحسنِ مَشْرُوعِيَّة ذَلِك، بل أَرَادَ إِبَاحَة ذَلِك، والمباح من جملَة الْحسن، كَمَا ذكره الأصوليون. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَقَالَ أَيْضا: وَأما تَقْبِيل الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة على قصد التَّبَرُّك، وَكَذَلِكَ تَقْبِيل أَيدي الصَّالِحين وأرجلهم فَهُوَ حسن مَحْمُود بِاعْتِبَار الْقَصْد وَالنِّيَّة، وَقد سَأَلَ أَبُو هُرَيْرَة الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يكْشف لَهُ الْمَكَان الَّذِي قبله، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سرته، فَقبله تبركا بآثاره وَذريته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَ ثَابت الْبنانِيّ لَا يدع يَد أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى يقبلهَا، وَيَقُول: يَد مست يَد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَيْضا: وَأَخْبرنِي الْحَافِظ أَبُو سعيد ابْن العلائي قَالَ: رَأَيْت فِي كَلَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي جُزْء قديم عَلَيْهِ خطّ ابْن نَاصِر وَغَيره من الْحفاظ، أَن الإِمَام أَحْمد سُئِلَ عَن تَقْبِيل قبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتقبيل منبره، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، قَالَ: فأريناه للشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية فَصَارَ يتعجب من ذَلِك، وَيَقُول: عجبت أَحْمد عِنْدِي جليل يَقُوله؟ هَذَا كَلَامه أَو معنى كَلَامه؟ وَقَالَ: وَأي عجب فِي ذَلِك وَقد روينَا عَن الإِمَام أَحْمد أَنه غسل قَمِيصًا للشَّافِعِيّ وَشرب المَاء الَّذِي غسله بِهِ، وَإِذا كَانَ هَذَا تَعْظِيمه لأهل الْعلم فَكيف بمقادير الصَّحَابَة؟ وَكَيف بآثار الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ وَلَقَد أحسن مَجْنُون ليلى حَيْثُ يَقُول:

(أَمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا الْجِدَار)

(وَمَا حب الدَّار شغفن قلبِي ... وَلَكِن حبُّ من سكن الديارا)

وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَيُمكن أَن يستنبط من تَقْبِيل الْحجر واستلام الْأَركان جَوَاز تَقْبِيل مَا فِي تقبيله تَعْظِيم الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِن لم يرد فِيهِ خبر بالندب لم يرد بِالْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَقد رَأَيْت فِي بعض تعاليق جدي مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف: أَن بَعضهم كَانَ إِذا رأى الْمَصَاحِف قبلهَا، وَإِذا رأى أَجزَاء الحَدِيث قبلهَا، وَإِذا رأى قُبُور الصَّالِحين قبلهَا، قَالَ: وَلَا يبعد هَذَا، وَالله أعلم فِي كل مَا فِيهِ تَعْظِيم لله تَعَالَى.

وَفِيه: فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، التَّسْلِيم للشارع فِي أُمُور الدّين وَحسن الإتباع فِيمَا لم يكْشف عَن مَعَانِيهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: تَسْلِيم الْحِكْمَة وَترك طلب الْعِلَل وَحسن الإتباع فِيمَا لم يكْشف لنا عَنهُ من الْمَعْنى، وَأُمُور الشَّرِيعَة على ضَرْبَيْنِ: مَا كشف عَن علته وَمَا لم يكْشف، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيم.

وَفِيه: قَاعِدَة عَظِيمَة فِي اتِّبَاع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيمَا يَفْعَله وَلَو لم يعلم الْحِكْمَة فِيهِ. وَفِيه: دفع مَا وَقع لبَعض الْجُهَّال من أَن فِي الْحجر الْأسود خاصية ترجع إِلَى ذَاته. وَفِيه: بَيَان السّنَن بالْقَوْل وَالْفِعْل. وَفِيه: أَن للْإِمَام إِذا خشِي على أحد من فعله فَسَادًا اعْتِقَاده أَن يُبَادر إِلَى بَيَان الْأَمر ويوضح ذَلِك.

فَائِدَة: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْحجر الْأسود: (وَإنَّهُ ليَبْعَثهُ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة، لَهُ عينان يبصر بهما، ولسان ينْطق بِهِ يشْهد على من استلمه بِحَق) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْأَوْسَط) من حَدِيث عبد الله ابْن عَمْرو: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يُؤْتى الرُّكْن يَوْم الْقِيَامَة أعظم من أبي قبيس، لَهُ لِسَان وشفتان يتَكَلَّم عَمَّن استلمه بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ يَمِين الله الَّتِي يُصَافح بهَا خلقه) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح. وَفِيه: جَوَاز كَلَام الجمادات، وَمِنْه تَسْبِيح الْحَصَى وَكَلَام الْحجر وَوُجُود اللِّسَان والعينين للحجر الْأسود هَل يخلقه الله تَعَالَى فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة أَو هُوَ مَوْجُود فِيهِ قبل ذَلِك؟ وَإِنَّمَا هُوَ أَمر خَفِي غامض يحْتَمل الْأَمريْنِ. وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أَن هَذَا الْوَصْف كَانَ مَوْجُودا لَهُ من يَوْم {لست بربكم} (الْأَعْرَاف: ٢٧١) . قَوْله: (يشْهد على من استلمه) ، على: هُنَا بِمَعْنى: اللَّام، وَقد ورد فِي رِوَايَة الأحمد والدارمي فِي مسنديهما يشْهد لمن استلمه بِحَق وَكَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>