للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لِأَن دُخُول الرِّيَاء وَعدم دُخُوله بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل والإخبار لَيْسَ مِنْهُ، فَافْهَم.

وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لما كَانَت الْأَعْمَال يدخلهَا الرِّيَاء وَالصَّوْم لَا يطلع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فعله إلَاّ الله، فأضافه إِلَى نَفسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث: (يدع شَهْوَته من أَجلي) ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: جَمِيع الْعِبَادَات تظهر بِفِعْلِهَا، وَقل أَن يسلم مَا يظْهر من شوب بِخِلَاف الصَّوْم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله مُنْفَرد بِعلم مِقْدَار ثَوَاب الصَّوْم وتضعيفه، بِخِلَاف غَيره من الْعِبَادَات، فقد يطلع عَلَيْهَا بعض النَّاس، وَيشْهد لذَلِك مَا روى فِي (الْمُوَطَّأ) : (تضَاعف الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى مَا شَاءَ الله، قَالَ الله: إلَاّ الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ) . أَي: أجازي بِهِ عَلَيْهِ جَزَاء كثيرا من غير تعْيين لمقداره، وَهَذَا كَقَوْلِه: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: ٠١) . والصابرون الصائمون فِي أَكثر الْأَقْوَال. قلت: هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن قَوْله: (الصَّابِرُونَ الصائمون) غير مُسلم، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ: الصائمون الصَّابِرُونَ، لِأَن الصَّوْم يسْتَلْزم الصَّبْر وَلَا يسْتَلْزم الصَّبْر الصَّوْم، وَقَالَ بَعضهم: سبق إِلَى هَذَا أَبُو عبيد فِي (غَرِيبه) ، فَقَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عُيَيْنَة أَنه قَالَ ذَلِك، وَاسْتدلَّ لَهُ بِأَن الصَّوْم هُوَ الصَّبْر لِأَن الصَّائِم يصبر نَفسه عَن الشَّهَوَات، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: ٠١) . ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيشْهد لَهُ رِوَايَة الْمسيب بن رَافع عَن أبي صَالح عِنْد سمويه: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلَاّ الصَّوْم، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحد مَا فِيهِ) . ثمَّ قَالَ: وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ ابْن وهب فِي (جَامعه) عَن عمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن جده زيد مُرْسلا، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب من طَرِيق أُخْرَى عَن عمر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (الْأَعْمَال عِنْد الله سبع) الحَدِيث، وَفِيه: (عمل لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلَاّ الله) . ثمَّ قَالَ: (وَأما الْعَمَل الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلَاّ الله فالصيام) . انْتهى. وَقد استبعد الْقُرْطُبِيّ هَذَا، بل أبْطلهُ بقوله: قد أَتَى فِي غير مَا حَدِيث أَن صَوْم الْيَوْم بِعشْرَة أَيَّام، فَهَذَا نَص فِي إِظْهَار التَّضْعِيف.

وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من الَّذِي ذكر بُطْلَانه، بل المُرَاد بِمَا أوردهُ أَن صِيَام الْيَوْم الْوَاحِد يكْتب بِعشْرَة أَيَّام، وَأما مِقْدَار ثَوَاب ذَلِك فَلَا يُعلمهُ إلَاّ الله. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَنه لَا يلْزم من ذَلِك بُطْلَانه، بل يلْزم لِأَن كَلَامه يُؤَدِّي إِلَى تبطيل معنى التَّنْصِيص على مَا لَا يخفى على المتأمل، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ أَن الصَّوْم أحب الْعِبَادَات إِلَيّ، والمقدم عِنْدِي، لِأَنَّهُ قَالَ: (الصّيام لي) ، فأضافه إِلَى نَفسه وَكفى بِهِ فضلا على سَائِر الْعِبَادَات. وَقَالَ بَعضهم: وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مثل لَهُ) ، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إعلموا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة) . قلت: لَا يُعَكر أصلا لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤال المخاطبين، كَمَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: (خير الْأَعْمَال أدومها وَإِن كَانَ يَسِيرا) . وَقيل: هُوَ إِضَافَة تشريف كَمَا فِي قَوْله: {نَاقَة الله} (الشَّمْس: ٣١) . مَعَ أَن الْعَالم كُله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عز وَجل. وَقيل: لِأَن الِاسْتِغْنَاء عَن الطَّعَام من صِفَات الله، عز وَجل، فَيقرب الصَّائِم بِمَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الصّفة وَإِن كَانَت صِفَات الله لَا يشبهها شَيْء، وَقيل: إِنَّمَا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَة لِأَن ذَلِك من صفاتهم، وَقيل: إِضَافَته إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يعبد أحد غير الله بِالصَّوْمِ، فَلم يعظم الْكفَّار فِي عصر من الْأَعْصَار معبودا لَهُم بالصيام. وَإِن كَانُوا يعظمونه بِصُورَة الصَّلَاة وَالسُّجُود وَالصَّدَََقَة وَغير ذَلِك، ونقضه بَعضهم بأرباب الاستخدامات فَإِنَّهُم يَصُومُونَ للكواكب، وَلَيْسَ هَذَا بِنَقْض، لِأَن أَرْبَاب الاستخدامات لَا يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَوَاكِب آلِهَة، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا فعالة بأنفسها وَإِن كَانَت عِنْدهم مخلوقة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الْجَواب عِنْدِي لَيْسَ بطائل. قلت: هَذَا الْجَواب جَوَاب شَيْخه الشَّيْخ زين الدّين، رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَن بيَّن وَجه مَا ذكره، وَقيل: وَجه ذَلِك أَن جَمِيع الْعِبَادَات توفّي مِنْهَا مظالم الْعباد إلَاّ الصّيام، وروى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن أَيُّوب عَن حسان الوَاسِطِيّ عَن أَبِيه عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُحَاسب الله عَبده وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ من الْمَظَالِم من عمله حَتَّى لَا يبْقى لَهُ إلَاّ الصَّوْم، فيتحمل الله مَا بَقِي عَلَيْهِ من الْمَظَالِم، ويدخله بِالصَّوْمِ الْجنَّة) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا حسن، غير أَنِّي وجدت فِي حَدِيث الْمُقَاصَّة ذكر الصَّوْم فِي جملَة الْأَعْمَال. لِأَن فِيهِ: (الْمُفلس من يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصدقَة وَصِيَام، وَيَأْتِي وَقد شتم هَذَا وَضرب هَذَا وَأكل مَال هَذَا) الحَدِيث. وَفِيه: (فَيُؤْخَذ لهَذَا من حَسَنَاته، وَلِهَذَا من حَسَنَاته، فَإِن فنيت حَسَنَاته قبل أَن يقْضِي مَا عَلَيْهِ أَخذ من سيئاته فطرحت عَلَيْهِ ثمَّ طرح فِي النَّار) وَظَاهره أَن الصّيام مُشْتَرك مَعَ بَقِيَّة الْأَعْمَال فِي ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: إِن ثَبت قَول ابْن عُيَيْنَة أمكن تَخْصِيص الصّيام من ذَلِك. قلت: يجْرِي الْإِمْكَان فِي كل عَام وَلَا يثبت التَّخْصِيص إلَاّ بِدَلِيل، وإلَاّ يلْزم إِلْغَاء حكم

<<  <  ج: ص:  >  >>