للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من شَاءَ الله أَن يشفع. الرَّابِعَة: قوم دخلُوا النَّار من المذنبين فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة والأنبياء والمؤمنون. الْخَامِسَة: الشَّفَاعَة فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فِي الْجنَّة لأَهْلهَا، وَهَذِه لَا تنكرهَا الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ القَاضِي: عرف بالاستفاضة سُؤال السّلف الصَّالح الشَّفَاعَة، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من قَالَ: يكره سؤالها لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا للمذنبين، فقد يكون لتخفيف الْحساب وَزِيَادَة الدَّرَجَات، ثمَّ كل عَاقل معترف بالتقصير مُشفق أَن يكون من الهالكين غير مُعْتَد بِعَمَلِهِ، وَيلْزم هَذَا الْقَائِل أَن لَا يَدْعُو بالمغفرة وَالرَّحْمَة لِأَنَّهَا لأَصْحَاب الذُّنُوب، وَهَذَا كُله خلاف مَا عرف من دُعَاء السّلف وَالْخلف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الشَّفَاعَة الأولى هِيَ الشَّفَاعَة الْعُظْمَى. قيل: وَهِي المُرَاد بالْمقَام الْمَحْمُود، والمختصة بنبينا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الأولى وَالثَّانيَِة، وَيجوز أَن تكون الثَّالِثَة وَالْخَامِسَة أَيْضا. وَالله أعلم.

قَوْله: (اِسْعَدْ النَّاس) ، التَّقْيِيد بِالنَّاسِ لَا يُفِيد نفي السَّعَادَة عَن الْجِنّ وَالْملك، لِأَن مَفْهُوم اللقب لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْجُمْهُور. قَوْله: (من قَالَ) فِيهِ دَلِيل على اشْتِرَاط النُّطْق بِكَلِمَة الشَّهَادَة. فَإِن قلت: هَل يَكْفِي مُجَرّد قَوْله: لَا إِلَه إِلَّا الله، دون: مُحَمَّد رَسُول الله؟ قلت: لَا يَكْفِي، لَكِن جعل الْجُزْء الأول من كلمة الشَّهَادَة شعاراً لمجموعها، فَالْمُرَاد الْكَلِمَة بِتَمَامِهَا. كَمَا تَقول: قَرَأت: {آلم ذَلِك الْكتاب} (الْبَقَرَة: ١ ٢) أَي: السُّورَة بِتَمَامِهَا. فَإِن قلت: الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق القلبي على الْأَصَح، وَقَول الْكَلِمَة لإجراء أَحْكَام الْإِيمَان عَلَيْهِ، فَلَو صدق بِالْقَلْبِ وَلم يقل الْكَلِمَة يسْعد بالشفاعة؟ قلت: نعم، لَو لم يكن مَعَ التَّصْدِيق منافٍ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بالْقَوْل النفساني لَا اللساني، أَو ذكر على سَبِيل التغليب إِذْ الْغَالِب أَن من صدق بِالْقَلْبِ قَالَ بِاللِّسَانِ الْكَلِمَة. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز، وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مشرع، وَفِي الشَّرْع لَا يعْتَبر إلَاّ القَوْل اللساني، وَالْقَوْل النفساني يعْتَبر عِنْد اللَّه، وَهُوَ أَمر مبطن لَا يقف عَلَيْهِ إلَاّ الله تَعَالَى. قَوْله: (خَالِصا) وَفِي بعض النّسخ: مخلصاً، من الْإِخْلَاص، وَالْإِخْلَاص فِي الْإِيمَان ترك الشّرك وَفِي الطَّاعَة ترك الرِّيَاء. قَوْله: (من قلبه) ذكر للتَّأْكِيد، لِأَن الْإِخْلَاص معدنه الْقلب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ آثم قلبه} (الْبَقَرَة: ٢٨٣) وَإسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْجَارِحَة الَّتِي تعْمل بهَا أبلغ. أَلا ترى أَنَّك تَقول إِذا أردْت التَّأْكِيد: أبصرته عَيْني وسمعته أُذُنِي! قَوْله: (أَو نَفسه) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: شكّ من أبي هُرَيْرَة. قلت: التَّعْيِين غير لَازم لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من أحد من الروَاة مِمَّن هم دونه، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الرقَاق: (خَالِصا من قبل نَفسه) .

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الْحِرْص على الْعلم وَالْخَيْر، فَإِن الْحَرِيص يبلغ بحرصه إِلَى الْبَحْث عَن الغوامض ودقيق الْمعَانِي، لِأَن الظَّوَاهِر يَسْتَوِي النَّاس فِي السُّؤَال عَنْهَا لاعتراضها أفكارهم، وَمَا لطف من الْمعَانِي لَا يسْأَل عَنهُ إلَاّ الراسخ، فَيكون ذَلِك سَببا للفائدة. وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. الثَّانِي: فِيهِ تفرس الْعَالم فِي متعلمه، وتنبيهه على ذَلِك لكَونه أبْعث على اجْتِهَاده فِي الْعلم. الثَّالِث: فِيهِ سكُوت الْعَالم عَن الْعلم إِذا لم يسْأَل حَتَّى يسْأَل، وَلَا يكون ذَلِك كتماً، لِأَن على الطَّالِب السُّؤَال، اللَّهُمَّ إلَاّ إِذا تعين عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ السُّكُوت إلَاّ إِذا تعذر. الرَّابِع: فِيهِ أَن الشَّفَاعَة تكون لأهل التَّوْحِيد، كَمَا ذكرنَا. الْخَامِس: فِيهِ ثُبُوت الشَّفَاعَة، وَقد مر مفصلا. السَّادِس: فِيهِ فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْقسم للتَّأْكِيد. الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز الكنية عِنْد الْخطاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

٣٤ - (بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ العِلْمُ)

أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَالْمعْنَى: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة قبض الْعلم، و: كَيفَ، يسْتَعْمل فِي الْكَلَام على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون شرطا، فَيَقْتَضِي فعلين متفقي اللَّفْظ وَالْمعْنَى غير مجزومين. نَحْو: كَيفَ تصنع أصنع. وَلَا يجوز: كَيفَ تجْلِس أذهب، بِاتِّفَاق، وَلَا: كَيفَ تجْلِس أَجْلِس الْجَزْم عِنْد الْبَصرِيين إلَاّ قطرباً. وَالْآخر: وَهُوَ الْغَالِب فِيهَا أَن تكون استفهاماً: إِمَّا حَقِيقِيًّا نَحْو: كَيفَ زيد؟ أَو غَيره، نَحْو: {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} الْآيَة (الْبَقَرَة: ٢٨) ، فَإِنَّهُ أخرج مخرج التَّعَجُّب، وَالْقَبْض نقيض الْبسط، وَالْمرَاد مِنْهُ الرّفْع والانطواء، كَمَا يُرَاد من الْبسط الانتشار.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْحِرْص على الحَدِيث الَّذِي هُوَ من أشرف أَنْوَاع الْعُلُوم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب ارْتِفَاع الْعُلُوم، فبينهما تقَابل فتناسقا من هَذِه الْجِهَة. وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب السَّابِق تَنْبِيها على أَن يهتم بتحصيل الْعُلُوم مَعَ الْحِرْص عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا مِمَّا تقبض وترفع فتستدرك غنائمها قبل فَوَاتهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>