للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِحُصُول الشِّفَاء، كتناول الْميتَة فِي المخصمة، وَالْخمر عِنْد الْعَطش، وإساغة اللُّقْمَة، وَإِنَّمَا لَا يُبَاح مَا لَا يستيقن حُصُول الشِّفَاء بِهِ. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ يَقِينا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَمرهم بذلك على سَبِيل التَّدَاوِي من السقم الَّذِي كَانَ أَصَابَهُ، وَأَنَّهُمْ صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلَة ضَرُورَة. وَقد قَالَ عز وَجل: {إلَاّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} (الْأَنْعَام: ١١٩) فَمَا اضْطر الْمَرْء إِلَيْهِ فَهُوَ غير محرم عَلَيْهِ من المآكل والمشارب. وَقَالَ شمس الائمة: حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رَوَاهُ قَتَادَة عَنهُ أَنه رخص لَهُم فِي شرب ألبان الْإِبِل. وَلم يذكر الأبوال، وَإِنَّمَا ذكره فِي رِوَايَة حميد الطَّوِيل عَنهُ، والْحَدِيث حِكَايَة حَال، فَإِذا دَار بَين أَن يكون حجَّة أَو لَا يكون حجَّة سقط الِاحْتِجَاج بِهِ، ثمَّ نقُول: خصهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك لِأَنَّهُ عرف من طَرِيق الْوَحْي أَن شفاءهم فِيهِ وَلَا يُوجد مثله فِي زَمَاننَا، وَهُوَ كَمَا خص الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلبْس الْحَرِير لحكة كَانَت بِهِ، أَو للقمل، فَإِنَّهُ كَانَ كثير الْقمل، أَو لأَنهم كَانُوا كفَّارًا فِي علم الله تَعَالَى وَرَسُوله، عَلَيْهِ السَّلَام، علم من طَرِيق الْوَحْي أَنهم يموتون على الرِّدَّة، ولايبعد أَن يكون شِفَاء الْكَافِر بِالنَّجسِ. انْتهى. فَإِن قلت: هَل لأبوال الْإِبِل تَأْثِير فِي الِاسْتِشْفَاء حَتَّى أَمرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك؟ قلت: قد كَانَت إبِله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الْإِبِل الَّتِي ترعى ذَلِك وَأَلْبَانهَا تدخل فِي علاج نوع من أَنْوَاع الِاسْتِشْفَاء، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي هَذَا أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف من طَرِيق الْوَحْي كَون هَذِه للشفاء، وَعرف أَيْضا مرضهم الَّذِي تزيله هَذِه الأبوال، فَأَمرهمْ لذَلِك، وَلَا يُوجد هَذَا فِي زَمَاننَا، حَتَّى إِذا فَرضنَا أَن أحدا عرف مرض شخص بِقُوَّة الْعلم، وَعرف أَنه لَا يُزِيلهُ إلَاّ بتناول الْمحرم، يُبَاح لَهُ حِينَئِذٍ أَن يتَنَاوَلهُ، كَمَا يُبَاح شرب الْخمر عِنْد الْعَطش الشَّديد، وَتَنَاول الْميتَة عِنْد المخمصة، وَأَيْضًا التَّمَسُّك بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ) . أولى لِأَنَّهُ ظَاهر فِي تنَاول جَمِيع الأبوال، فَيجب اجتنابها لهَذَا الْوَعيد، والْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره مَرْفُوعا.

وَمن الاحكام نظر الإِمَام فِي مصَالح قدوم الْقَبَائِل والغرباء إِلَيْهِ، وَأمره لَهُم بِمَا يُنَاسب حَالهم وَإِصْلَاح أبدانهم.

وَمِنْهَا: جَوَاز التطبب وطب كل جَسَد بِمَا اعتاده، وَلِهَذَا أفرد البُخَارِيّ بَابا لهَذَا الحَدِيث وَترْجم عَلَيْهِ: الدَّوَاء بأبوال الْإِبِل وَأَلْبَانهَا.

وَمِنْهَا: ثُبُوت أَحْكَام الْمُحَاربَة فِي الصَّحرَاء، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث فِي طَلَبهمْ لما بلغه فعلهم بالرعاء، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي ثُبُوت أَحْكَامهَا فِي الْأَمْصَار، فنفاه أَبُو حنيفَة، وأثبته مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَمِنْهَا: شَرْعِيَّة الْمُمَاثلَة فِي الْقصاص. وَمِنْهَا: جَوَاز عُقُوبَة الْمُحَاربين، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {انما جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ... } (الْمَائِدَة: ٣٣) الْآيَة، وَهل كلمة: أَو، فِيهَا للتَّخْيِير أَو للتنويع قَولَانِ. وَمِنْهَا: قتل الْمُرْتَد من غير اسْتِتَابَة، وَفِي كَونهَا وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة خلاف مَشْهُور، وَقيل: هَؤُلَاءِ حَاربُوا، وَالْمُرْتَدّ إِذا حَارب لَا يستناب لِأَنَّهُ يجب قَتله، فَلَا معنى للاستتابة.

الاسئلة والاجوبة الأول: لَو كَانَت أَبْوَال الْإِبِل مُحرمَة الشّرْب لما جَازَ التَّدَاوِي بهَا لما روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شِفَاء امتي فِيمَا حرم عَلَيْهَا) . وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار، وَأما حَالَة الِاضْطِرَار فَلَا يكون حَرَامًا: كالميتة للْمُضْطَر، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا حَدِيث بَاطِل، لِأَن فِي مُسْنده سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ وَهُوَ مَجْهُول. قلت: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَصَححهُ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْمثنى، قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن حسان بن الْمخَارِق قَالَ: (قَالَت أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: اشتكت ابْنة لي، فنبذت لَهَا فِي كوز، فَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يغلي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقلت: اشتكت ابْنَتي فنبذنا لَهَا هَذَا: فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِي حرَام) . وَقَول ابْن حزم: أَن فِي سَنَده سلمَان وهم، وَإِنَّمَا هُوَ: سُلَيْمَان، بِزِيَادَة الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ أحد الثِّقَات، أخرج عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) فَإِن قلت: يرد عَلَيْهِ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْخمر: إِنَّهَا لَيست بدواء وَإِنَّهَا دَاء، فِي جَوَاب من سَأَلَ عَن التَّدَاوِي بهَا. قلت: هَذَا رُوِيَ عَن سُوَيْد بن طَارق: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخمر فَنَهَاهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَنَهَاهُ، فَقَالَ يَا نَبِي الله: إِنَّهَا دَوَاء! فَقَالَ: لَا، وَلكنهَا دَاء) . وَأجَاب ابْن حزم عَن ذَلِك فَقَالَ: لَا حجَّة فِيهِ، لِأَن فِي سَنَده: سماك بن حَرْب، وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، شهد عَلَيْهِ بذلك شُعْبَة وَغَيره، وَلَو صَحَّ لم يكن فِيهِ حجَّة، لِأَن فِيهِ: أَن الْخمر لَيْسَ بدواء، وَلَا خلاف بَيْننَا فِي أَنَّهَا لَيْسَ بداوء فَلَا يحل تنَاوله، وَقد أجَاب بَعضهم بِأَن ذَلِك خَاص بِالْخمرِ، ويلتحق بهَا غَيرهَا من المسكرات. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن دَعْوَى

<<  <  ج: ص:  >  >>