للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو أريد بالقلة العدم، كما هو شائع واقع في الكلام الفصيح، لكان أقرب، إذ كثرة الأموات في الحقيقة عدمٌ محض، وصح ذلك على كل من قولي ابن جني والواحدي.

ولو أريد بالقلة الإقلال، وقلة الجدوى، كما يقال: مات فلان من القلة، أي الفقر، بمعنى أنهم ماتوا من الإقلال حين انقطعت عنهم مكارمه، لأمكن أيضاً.

وهذا الوجه إنما يجري على قول ابن جني، ولا بعد في ذلك، إذ الظاهر أن خطاب الممدوح بمثل ذلك لم يكن مستهجنا عند المتقدمين؛ لظهور حقيقة تيقن الموت، ألا ترى إلى قول أبي نواس، في آخر قصيدته التي قالها في تهنئة جعفر البرمكي:

سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتمُ ... بَنِي بَرْمَكٍ من رائحين وغادِ

وقوله:

إنما الدنيا حُمَيدٌ ... وأياديه الجسامُ

فإذا ولَّى حُمَيدٌ ... فعلى الدنيا السلامُ

لا سيما إذا كان الممدوح من الأعيان، ولم يكن بذي سلطان. انتهى.

[أخوه إبراهيم]

هذا الجناب الأفضل، والمحل الأمرع الأخضل.

مكان القول فيه ذو سعة، والألسنة كلها على مدحه مجتمعة.

فمن يتقدم فليقل ما شاء في وصف شمائله، وحق على المدح أن يتباهى بمخائل خمائله.

وحسبك من امرئٍ لم تر له ذاماً ولا شانيا، ولا ذاكرا يعلم الله أن له في الفضل ثانيا.

فقد جمع إلى كرم أصله، أعظم مزية من باهر فضله.

فقضى الحق الواجب عليه، واستدعى حيازة التفضيل بالحجة إليه.

فالدر ينثر من يديه وفيه، والخير مجموعٌ لديه وفيه.

وهو ريان من كل فن، سمح من غير تبجحٍ ومن.

مجلسه يأرج أرج الزهر، وسماحه يفيض فيض النهر.

وعينه في اكتساب المحامد ممنوعة السنات، وصحيفة وجهه كلها قربات وحسنات.

وهو وحيد الدهر في الأدب وفريده، وألمعيه الذي وفى البلاغة كل ما تريده.

ببنان قد قبض على أزمة البيان، ولسان قد امتطى صهوة الإحسان.

وله من النظم بدع جلائل، إلا أنها في العدد قلائل.

والنجوم أجلها أعلاها، والمعادن أقلها أغلاها.

فمن شعره قوله.

إن يكن زاد في الحسانِ جمالٌ ... أكَّد الحسن فيهمُ تأكيدَا

فلقد أسَّس العذارُ بخدَّي ... مُنْيَتِي رَوْنقاً ولطفا مَزِيدَا

وهْو عَمْرِي لا شك أزْهَى وأبهى ... حيْثُما قد أفاد معنىً جديداً

وقوله:

يا مليحاً قد حاز كلَّ الجمالِ ... وحبِيباَ تفْديه رُوحي ومالِي

كلما زدْتُ في هواك غراماً ... قلَّ صبْري وزاد فيك انْتحالِي

آهِ من حسنِ مَبْسمٍ لك كالدُّ ... رِّ ولحظٍ يَرْوِي عن الغزَّالِي

جُدْ لعبدٍ غدا قتيلَ عيونٍ ... قد رمْته لحاظُها بِنبالِ

لك خَصُرٌ قد صار مثلي نحيلاً ... حمَّلته الأرْدافُ ثُقْلَ الجبالِ

لك وجْه قد أخجل الشمسَ نوراً ... لك جِيدٌ قد فاق جِيدَ الغزالِ

لك قدٌّ كالرمح يهْتزُّ تِيهاً ... قد رماني بأسْمَرٍ عسَّالِ

فترفَقْ بعبدِ رِقٍّ عميدٍ ... قد غدا في هواك رَقَّ الخلالِ

نحلتْه الأسقامُ شوقاً ووجداً ... فغدا جسمُه من السُّقمِ بالِي

كلّ ما مَرَّ شَرْحُه بعضُ حالي ... وهو عندي إن كان يُرْضيك حالِي

وقوله من قصيدة، أولها:

ما رياضٌ حِيكتْ بأيْدِي الغمامِ ... باكَرَتْها بصَوْب مُزْنٍ هامِي

عَلَّها وابلُ الحيَا بعد نَهْلٍ ... فأماطت عن ثَغْرها البَسَّامِ

وتحلَّت بنُورِ نَوْرٍ نضيرٍ ... من عَرارٍ ونرجِسٍ وبَشامِ

فعليلُ النسيم مِنها إذا هبَّ ... كَفيلٌ بصحةِ الأجسامِ

فهْي نوراً كبهجة الشمس حسناً ... وهْيَ لطفاً كالبُرْء للأسقامِ

كمُحيَّا الأستاذ مولاي يحيى ... دام يَحْيا على مدى الأيَّامِ

وكتب إلى والدي، وهما بدار الخلافة، قوله:

إليك أخي نصيحةَ ذي اخْتبارِ ... له حزمٌ وزَنْدٌ فيه وارِي

إذا جار الزمانُ وكلُّ دهرٍ ... على أحرارِه في الجَوْر جارِي

<<  <  ج: ص:  >  >>