للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال لبست ملاءة الربيع، وكتمت الغرام لو أستطيع.

فقلت: لأمرٍ ما خطبتك الغيد، وأعارتك حلى الجيد.

فقال: بل موهت النحول، وأخفيت عنوان الذبول.

وأما ما أحاط بالمقلد فوثاق، وقد تظرف من طبع أغلال الهوى على قوالب الإطباق.

فلما نعمت بمطارحته، ونهمت بمفاكهته.

سايرته بأرسانه، وقاولته بلسانه.

وقلت: إيه، فيما نحن فيه.

غصن نضير، ووادٍ عطير.

روضة حزن، ونسيمه لدن.

وماؤه صاف، ونديمه وصاف.

فزدني من ندامك، وأصخ لترنامك.

ففي أي الحالتين تفيض، فلا بعدك معبد ولا دونك غريض. فقهقه ورجع، ثم أنشد فأسمع:

خُذْ بنا في محاسنِ الأوصافِ ... فهي نَقْلٌ ما بين أيدي الظَّرافِ

وانْتخبْ للنِّدامِ كلَّ حديثٍ ... من قِصارِ الفصول ذاني القطاف

يتمنَّى الجليسُ عمرَ مُعاذٍ ... لتلِّقى مُعادِه الشفَّافِ

واقْتحمْ لُجَّةَ القَرِيضِ بفكْرٍ ... يْنتقى الدُّرَ في حَشَا الأصْدافِ

وتنقَّلْ من الدُّعابَةِ للْجِدِّ ... وخَيِّمْ حيث المعاني الِّلطافِ

فلما أتى بنقل قريضه، وألمع إلي بتعريضه.

ناب إلى أن أمتخض الفكر، وأكشف قناع البكر.

فأبْرزْتُها عذراءَ في زِيِّ غادةٍ ... تُزَفُّ على وجِه الدُّعابِة والهزْلِ

وما ثَمَّ إلَّا نَبْعةُ الشعرِ نَبْعةٌ ... يَرنِ ُّبها طيرُ الفصاحِة والنَّبْلِ

بيت الفرفور بيتٌ فضله موفور، وذنب الزمان بأهله مغفور.

وقد خرج منه جماعة أجلاً، فضلهم أبهر من النجوم السيارة وأجلى، فمنهم:

[أحمد بن ولي الدين]

الأديب الأريب، واحد الخبرة والتجريب.

نظم الشهب في الكتب، ورفع النقب عن أسرار الحقب.

وهو من كل المشارب شارب، ومن كل المسارب سارب.

فطوراً له طورٌ لجِدّ مُدافعٍ ... ووْقتاً له سَمْتٌ لهزْلٍ مُجانبُ

ولله منه جانبٌ لا يُضِيعُه ... ولَّلْهو منه والخلاعِة جانبُ

واتفق أن ضرب الدهر على صماخيه بصمام من الصمم، فزاده ثقل تلك الحاسة خفة تنشط الرمم.

فما برح يشرب صرف الهنا من أدنانه، ويهصر غصن المنى في أفنانه.

حتى أثرت في ذوائبه أفاويف الشيب، ودعاه الداعي الذي لا يعترض إجابته الريب.

وهو شاعر لشعره حظٌّ من الحسن، كأنما تغازله الجفون الوسن.

أثبت له ما يهيج الطرب، ويحلو في الأفاوه كما يحلو الضرب.

فمن ذلك قوله في مراجعة العمادي المفتى، وقد كتب إليه قصيدةً، لم أر منها إلا قوله:

مَن لي بظَبْيٍ كُحِّلتْ ... أجفانُه بالسَّقمِ

يفترُّ عن ثغرِ بدَا ... عذْبَ الثنايا شَبِمِ

أجْرى دموعي في الهوى ... كمُغدِقات الدِّيَمِ

وسَلَّ سيفَ لَحْظِه ... وهزَّ قَدَّ لَهْذَمِ

واخْتال في ثَوْب الصِّبا ... يْسحب كلَّ مُعْلَمِ

مصائبٌ ما جُمِّعتْ ... إلا لقْتل المغرمِ

يا قاتلَ اللهُ الهوى ... بدَّل دمعي بالدمِ

فكم له في خَلَدِي ... سرائِرٌ لم تُعلَمِ

وهذا ما رأيته في جوابه:

دُرٌّ سَمتْ في القِيَم ... وسُمِّيت بالكَلِمِ

أم روضةٌ دامتْ عليْ ... ها هاطلاتُ الدِّيَمِ

فلاح منها نُورُ ثَغْ ... رِ نَوْرِها المبتسِمِ

أم غادةٌ قلبي كَلِي ... مُ لَحْظِها المكلَّمِ

من بَيْضها وسُمْرِها ... في الطِّرْش قَتْلُ المغرَمِ

حيَّتْ فأحْيت بالِّلقا ... قلبا إليها قد ظَمِى

لِمْ لا ومُهْديها كري ... مٌ لكرامٍ ينْتمِي

ألْفاظُه كالسحرِ إلَّا ... أنها لم تحرُمِ

مُهذَّب أخلاقُه ... بحُسْن تلك الشِّيَمِ

كنَشْرِ روضٍ قد سرَى ... غِبَّ حَياً مُنسجِمِ

وكان بينه وبين أحمد بن شاهين صحبة وردها شرع لا ينسخ، وعهدها عقد لا يفسخ.

وكلاهما من أول مرباه، كالغصن يترنح في رباه.

<<  <  ج: ص:  >  >>