للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويزعم قوم أنه يتنسّك في ملئه فتكا، ويتهتّك في وحدته هتكا.

ويحبط في الأعمال ويتبر، وهو يهلّل ويكبّر.

ويحسّن ويقبّح، وهو يستغفر ويسبّح.

وكنت عزمت على أن لاأطري له ذكرا، وأخلص من أن آتي شيئاً نكراً.

ثم عنّ لي الإتيان به، لمكان فضله وأدبه.

ولم أقصد بذكر هذه العيوب، التي يعلم حقيقتها علاّم الغيوب.

بغض شخصٍ فات، واقتفته يد الآفات.

وحاشا الله أن أكون ممّن يصدر ذلك من فيه، ولكن عملاً بما سمعته من الناس فيه.

والله يحبوه منه لطفاً خفيًّا، وينيله عفوًا يكون به حفيًّا.

فمن شعره، وهو معنى لطيف:

حكى دخاناً سَما من فوق وَجْنَةِ من ... قد مَصَّ غلْيونَه إذ هزَّه الطربُ

غيمٌ على بدرِ تِمٍّ قد تقطَّع من ... أيْدي النسيمِ فولَّى وهْو ينسحبُ

فقلتُ والنارُ في قلبي لها لهبٌ ... لقد حكيْتَ ولكن فاتَك الشَّنَبُ

والبيت الثاني، منه قولي:

ما كان إعطاؤُه الغلْيونَ عن مَلَلٍ ... منَّا وحاشا بهذا قَطُّ ماعُرِفَا

لكن أراد يُرِينا من بدائِعه ... بدرًا تقطَّع عنه الغيمُ فانْكشفَا

وكتب إلى عليّ بن بجع البعليّ، وكان أعاره مجموعا، فردّه عليه:

أرسلتَ مَجْموعي وقد أمْسكتَ ما ... هو قلبيَ الموْدُوع بين ضلوعِي

فبكيتُ من شَوْقِي إليه مَدامعاً ... حمرا وليْست غير صِرْفِ نَجِيعِي

فجرتْ على هذي البطاقةِ أحْرُفاً ... مجموعُها يُومِي بِسلْب جميعِي

تذكرت بالبيت الأول، ما يروى أن بعض الأدباء استعار من آخر مجموعا، ومطله به، ثم اجتمعا في مجلس بعد تراخ، فقال المستعير: إنّي متشوّق إليك، وقلبي عندك.

فقال الآخر: وأنا متشوّق إليك، ومجموعي عندك.

محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ

هو مع قلة أنداده، واحدٌ في تهيئة مواد القبول وإعداده.

فاختلف إليه السعى رائحاً وغاديا، وأطرب بذكره الثناء شاديا وحاديا.

إلا أنه ترامى في بحبوحة التصلّف، وتكلّف والعلى لاتنال بالتكلّف.

ففوّقت إليه سهامها لواحظ الظنون، وقدماً قيل أرض صيدا تنبت العيون.

وهو صاحب فكر حديد، وأدبٍ وافر مديد.

فاضلٌ ملء إهابه، عارفٌ بإيجاز الأدب وإسهابه.

وله كتاب ألحان الحادي، في المراجع والمبادي.

استحسنت من شعره فيه قطعة، رأيتها في مفازة وحدها منقطعة.

وهي قولي من قصيدة:

إذا أنكرتْ دعوَى المحبِّ شهودُهُ ... فحسبِيَ أنِّي في الغرامِ شهيدُهُ

فلله شَوْقٌ لا يقَرُّ قَرارهُ ... من البُعدِ حتى مالَه من يعودُه

وقد مَلَّه عُوّادُه وهُو مُدنَفٌ ... حليفُ جَوًى صَبُّ الفؤادِ عَمِيدُهُ

رعى اللهُ أياماً تقضَّت بقُربهمْ ... ومَن لي بذاك القُرب مَن ذا يُعِيدُهُ

أيا عاذِلي عمَّن نَعيمِيَ وَعْدُهُ ... ونارُ جحيمي بُعدُه ووعيدُهُ

ولم يتعطَّف بالوِصال لمُغْرمٍ ... وقد طال منه هَجرُه وصُدودُهُ

فهذا مَلامِي مَسْمَعِي لايريدُه ... وهذا غرامي لاأزال أرُودُهُ

وإن كادَني دهرِي بجَوْر زَمانِه ... تخلَّصْتُ منه بالذي عَمّ جُودُهُ

قولي: وقدماً قيل: أرض صيدا تنبت العيون، إشارة إلى قول ابن الساعاتي، وقد هرب غلام، فأمر أن يمرّ في نرجس صيدا:

للهِ صَيْداءُ مِن بلادٍ ... لم تُبْقِ عندي هَمًّا دَفِينَا

نَرْجِسُها حِليةُ الفَيافِي ... قد طبَّق السهلَ والحُزونَا

وكيف ينْجُو بها هَزِيمٌ ... وأرضُها تُنبتُ العيونَا

ومما يهزني إلى الطرب فصلٌ لابن شاهين، في وصف صيدا، قال فيه: وأما صيدا، فإنها بين البلاد أسد البيدا.

وما أدري كيف يذمها بعض الناس، وأهلها يعوّذونها من شرّ الوسواس الخنّاس.

ولعمري إنها بلدة لولا حرارة مائها وهوائها، وبرودة أوضاعها وأبنائها.

لكانت جنّة المأوى، في الدنيا والآخرى.

اللهم إنا نسألك الإنصاف، ونعوذ بك من التعصّب والاعتساف.

<<  <  ج: ص:  >  >>